تعرّضت سويسرا، في الشهر الماضي، للهجوم الإرهابي الجهادي الثاني في تاريخها، بعد شهرين فقط من وقوع الهجوم الأول. ورغم أن الهجوم نفَّذته امرأة، وهو أمرٌ نادر الحدوث، فإنه لم يحظَ باهتمامٍ كبير على الصعيد الدولي. ورغم وقوع عدد محدود من الضحايا، حيث جرح اثنان فقط، فإن هناك انعكاسات مهمة لهجوم لوجانو. ذلك أنه يسلّط الضوء على أن التهديد قد تحوّل من خطر عودة المقاتلين الأجانب، إلى الأشخاص المحبطين الذين يطمحون للسفر. كما أنه يلقي الضوءَ على الخطر المتنامي للضعفاء عقليًا في الأوساط المتطرفة خلال فترة انتشار الوباء، ويظهر أنه لا توجد دولة غربية واحدة محصّنة ضد عنف الجهاديين.
كيف تكَشَّف الهجوم
قرابة الساعة الثانية بعد ظهر يوم 24 نوفمبر، هاجمت امرأة بشكل عشوائي شخصين في الطابق الخامس من مركز مانور للتسوق في ميدان دانتي أليجيري في لوجانو، وهي بلدةٌ ناطقة باللغة الإيطالية في سويسرا. حاولت المهاجمة خنق الضحية الأولى بيديها، ثم قطع عنق الضحية الثانية بسكين مطبخ مسنن كبير، قيل إنها سرقته قبل ذلك بقليلٍ من المركز التجاري نفسه. وفي حين أن إحدى ضحاياها لم تُصَبْ إلا بجروحٍ طفيفة، فإن الأخرى أصيبت بجروحٍ خطيرة. ثم تغلَّب الزبائن عليها، وقيل إنها صرخت بالإيطالية “أنا أنتمي إلى داعش“.
ذكرتِ التقارير أن المهاجمة سيدة تبلغ من العمر 28 عامًا وتعيش في فيزيا؛ بلدة في الضواحي الشمالية الغربية في لوجانو، يبلغ عدد سكانها 150,000 نسمة، وهي أكبر مدينة في مقاطعة تيسينو الناطقة باللغة الإيطالية (المعروفة أيضًا باسم تيسين). وأوردت وسائل الإعلام المحلية الأحرف الأولى من اسمها J.M، حيث يرمز حرف “M“ إلى لقب زوجها السابق، في حين أن اسمها قبل الزواج هو J.D. والدها مواطن سويسري الأصل يتحدث الإيطالية، أما والدتها فمن أصلٍ صربي. ويُقال إن الأسرة مسيحية، ولكنها اعتنقتِ الإسلام على ما يبدو بعد زواجها من طالب لجوء أفغاني. وكان الزوجان يعيشان في منطقة بريجاسوسنا القريبة، لكنهما انفصلا قبل الهجوم ببعض الوقت.
وأضافت التقارير أن المهاجمة معروفة بأنها تحوَّلت للتطرف. في عام 2017، حاولت الانضمام إلى رجلٍ غادر إلى سوريا، بعد أن تعرفت عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. بيد أنها أوقفت عند الحدود التركية السورية، وأعادتها السلطات إلى سويسرا. وقد فُتح تحقيقٌ هناك، لكن في مارس 2018 قرَّر القضاء السويسري عدم مقاضاتها. واعتُبرت غير مستقرة عقليًا -أي أنها تمثِّل خطرًا أكبر على نفسها من الآخرين- ووضعت في منشأة للطب النفسي. ولم يُعرف بالضبط متى غادرت تلك المؤسسة، ولكن وفقًا لبيان الشرطة، لم تظهر مرة أخرى في تحقيق إرهابي حتى هجوم لوجانو.
دولة معروفة بحيادها
لم تشهد سويسرا أي هجوم جهادي حتى وقتٍ قريب جدًا. أقرب ما وصل إليه الأمر هو الاعتداء على اثنين من أعضاء مسجد النور في وينترتور في عام 2016، وهما اللذان يُزعم أنهما استهدفا لقيامهما بإخطار وسائل الإعلام عن خطبة حرّض فيها الإمامُ على العنف. سويسرا تُشتهر بحيادها، وعدم انتمائها إلى شراكات عسكرية مثل حلف الناتو، ونادرًا ما نشرت قواتها المسلحة في الخارج. وفي الفترة من فبراير 2004 حتى مارس 2008، شاركت سويسرا في القوة الدولية للمساعدة الأمنية بقيادة حلف الناتو في أفغانستان، ولكن بأربعة ضباطٍ فقط كحد أقصى. وعلى عكس العديد من الدول الأوروبية الأخرى، لم تشارك في عمليات عسكرية حديثة ضد الجماعات الجهادية.
ومع ذلك، فإن لدى سويسرا علاقة متوترة إلى حدٍّ ما مع الإسلام، ثالث أكبر ديانة لديها ما يُقدّر بنحو 450000 شخص في الدولة (أي 5.4٪ من سكان سويسرا). وعلى الرغم من معارضة الحكومة والأساقفة الكاثوليك، صوّت 57.5% من السويسريين في استفتاءٍ لتعديل الدستور الذي يحظر بناء مآذن جديدة في نوفمبر 2009، ولم يكن هناك سوى أربعة مساجد بها مآذن في الدولة، في ذلك الوقت. ومنذ ذلك الحين، صوّتت أيضًا مقاطعتان على حظر ارتداء النقاب. ورغم فرض هذا الحظر، لم تقع سويسرا أبدًا في مرمى نيران الحركة الجهادية العنيفة، على الأقل ليس بالقدر ذاته الذي جلبته رسوم يولاندز بوستن للنبي محمد للدنمارك ومثيلاتها التي نشرتها مجلة شارلي إيبدو لفرنسا.
جدلية الانتقام كأداةٍ دعائية
يُعتبر القول بأن الهجماتِ الإرهابية أعمالٌ انتقامية ضد أولئك الذين يهاجمون الدول الإسلامية، حجةً مريحة للبعض، لكن الحقيقة هي أن أي دولة غربية تعد هدفًا جهاديًا محتملًا، بغض النظر عما تفعله. ويستخدم تنظيم داعش هذه الحجة ذريعة في دعايته، ولكن التنظيم كان في الواقع يخطِّط لتنفيذ أعمال عنف في أوروبا قبل أن يُصبح هدفًا عسكريًا للغرب. ذلك أن أول هجوم للتنظيم على الأراضي الأوروبية كان الهجوم القاتل الذي شنه مهدي نموش على المتحف اليهودي في بروكسل في مايو 2014، في حين أن أول غارة جوية غربية ضد داعش كانت في أغسطس من نفس العام، ووفقًا لبحث أجراه الصحفي الفرنسي المطلع ماتيو سوك، بدأت الاستعدادات لهجوم نموش في منتصف عام 2013.
وحتى وقت كتابة هذا المقال، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت المهاجمة على اتصال بأشخاص في سوريا أو تحولت للتطرف على يد أفراد في أماكن أخرى. ورغم أنها تصرفت على ما يبدو بمفردها، فمن السابق لأوانه تصنيفها ضمن ما يعرف باسم “الذئاب المنفردة”، وهو المصطلح الذي غالبًا ما يثبت خطأه. ونظرًا لأن الجانية لم تكن مسلحة في البداية، يبدو أنه هجوم متهور. ومع ذلك، فهناك حاجة إلى إجراء تحقيق شامل لتحديد دوافعها الحقيقية، وما إذا كانت تعمل بالتنسيق مع آخرين. ولكن في الوقت الراهن، هناك أوجه تشابه صارخة بين هذا الهجوم، والهجوم الذي نُفِّذ في سويسرا قبل شهر.
هجومٌ في مقاطعة فود
في مساء 12 سبتمبر، قُتل رجلٌ برتغالي طعنًا حتى الموت في مطعم للكباب في مورجيس؛ وهي بلدية في مقاطعة فود الناطقة بالفرنسية. هنا أيضًا، بدا أن الضحية تم اختيارها عشوائيًا على يد شخص يرمز إليه بالأحرف الأولى Ö.A. (27 عامًا)، الذي ألقي القبض عليه حيًا، وهو مواطن سويسري من أصل تركي ومعروف أنه يعاني مشكلات في الصحة العقلية. وبعد هجوم مورجيس، أعلن العثور على بيان في حوزة الجاني أقسم فيه على الانتقام بسبب الإساءة للنبي محمد. ومن المثير للاهتمام أنه سبق القبض عليه في العام السابق على الهجوم، وذلك عقب محاولته إشعال النار في محطة وقود بالقرب من منطقة بريلي في أبريل 2019، وأفرج عنه من السجن عقب مضي ثلاثة أشهر.
بعد الهجوم الذي وقع في مقاطعة فود، تبين أن المهاجم يرتبط بشبكة مهمة لأتباع داعش في المناطق الناطقة باللغة الفرنسية في سويسرا، وفي فرنسا. وانضم عضو واحد على الأقل من هذه الشبكة إلى كتيبة في سوريا مقرّبة من قسم العمليات الخارجية التابع لتنظيم داعش، الذي يُسمى “أمنيات”، المسؤول عن الهجمات في الغرب. ووفقًا لمعلوماتي، حاول المهاجم المذكور أعلاه السفر إلى سوريا قبل وقتٍ قصير من القبض عليه. وفي حين أنه من غير الواضح ما إذا كان لا يزال على اتصالٍ بأشخاصٍ من تلك الشبكة، فإن ذلك غيرُ مستبعد.
الجدير بالذكر أنه يمكن للجاني أن يتصرَّف بمفرده من مرحلة التخطيط إلى التنفيذ، حتى لو كان جزءًا من شبكة. ويمكن أن يكون هذا هو الحال، على سبيلِ المثال، عندما ألقي القبض على جميع أعضاء الشبكة الذين كان على اتصال معهم أو قتلوا. وبالتالي، يمكن أن يصبح الانتقام لمصيرهم هو ما دفعه لتنفيذ الهجوم.
مسافرون فاشلون
ارتكب كلا الهجومين في سويسرا أفرادٌ فشلوا في خططهم للسفر إلى سوريا. وقد أدَّى نزوح المقاتلين الأجانب الذي بدأ في عام 2012 إلى تقليص الكثير من جهود مكافحة الإرهاب في أوروبا لتتركز على المقاتلين العائدين منذ فترة طويلة. واتضح أن الهجمات الواسعة النطاق -مثل تلك التي ارتُكبت في نوفمبر 2015 في باريس- من عمل مقاتلي تنظيم داعش الذين عادوا خلسةً من مناطق القتال. ولكن منذ أن فقدت “الخلافة” المزعومة معظم أراضيها، أصبح التهديد يأتي بوضوحٍ من أشخاص لم يصلوا إلى منطقة القتال.
بالنسبة لأولئك الذين حاولوا السفر ولم ينجحوا، قد يصبح الإحباط الناجم عن المحاولة الفاشلة دافعًا إضافيًا وقويًا لشنّ هجمات. فلقد كانوا مستعدين للموت في ساحة الحرب، وربما ازداد غضبهم تجاه الغرب بسبب إخفاق خططهم. ومن الأمثلة المعروفة عن المقاتلين الأجانب الذين لجأوا أخيرًا إلى شنِّ هجماتٍ في الداخل مهاجم ستوكهولم في أبريل 2017 رحمت عقيلوف، واثنين من مهاجمي جسر لندن في يونيو 2017 خورام بات ويوسف زغبة، ومؤخرًا، مهاجم فيينا، في نوفمبر 2020، كوجتيم فيجولاي.
ويمكن للمخططين الإرهابيين أن يستغلوا بسهولة إحباطات أولئك الذين فشلوا في السفر، فهو يجعلهم فريسة مثالية لتحريضهم على التحرك، سواء عبر مجرد التشجيع أو التوجيه الصريح. وينطبق الشيء نفسه على الأرجح على غير المستقرين عقليًا.
الصحة العقلية والتطرف
أفادت تقاريرٌ إخبارية أن كلا الجانيين السويسريين لديهما مشكلاتٌ نفسية، وحذَّرت أجهزة الأمن المحلية من تصاعد التهديدات الإرهابية بسبب أزمة كوفيد-19. بالنسبة للجماعات الإرهابية، فمن الأصعب بكثير ارتكاب هجوم يوقع عددًا كبيرًا من الضحايا في وقتٍ تُحظر فيه التجمعات الكبيرة، وتُغلق المتاجر، ويُفرض حظر التجول، كما كان الحال في دول عدة منذ فترة طويلة.
ومع ذلك، فإن العزلة الاجتماعية، وزيادة الاعتماد على الشبكات الافتراضية، وتدهور الصحة العقلية، يمكن أن تؤجج التطرف، وتتسبب في وقوع أعمال من هذا القبيل.
في السنوات والأشهر الماضية، وقعت هجمات عدة كان من المستحيل تحديد أسبابها بدقة، هلِ الميولُ الأيديولوجية للجاني أم حالته العقلية؟ وفي بعض الأحيان، يبدو حتى الدافع الجهادي الذي ينطق به الجاني صراحة مجرد تبرير في اللحظة الأخيرة لعمل يائس. ولكن في الوقت نفسه، يمكن استغلال هذا اليأس من قبل الآخرين.
ورغم أن الأشخاص الذين يعانون مشاكل نفسية قد يكونون أقل موثوقية من الناحية العملياتية، فمن الأسهل التأثير عليهم. وهذا رصيد قيّم للمنظمات -التي تعتبر كل مؤامرة، سواء نجحت أم لا، مساهمةً مرحب بها في مناخ الخوف الذي تريد خلقه- مثل تنظيم داعش.
الخلاصة
في حين أن مسألة الصحة العقلية هي بالتأكيد عامل مهم ولا يمكن استبعاده، فمن الخطر أن نعزوَ هذه الهجمات الأخيرة في سويسرا إلى الاضطرابات العقلية وحدها. فالقضايا العقلية لا تستبعد بالضرورة وجود مؤامرة إرهابية ماكرة. وغالبًا لا يتم الكشف عن اتصالات الشبكة إلا في سياق التحقيقات المطوّلة، ورغم ذلك فقد يظل تواطؤ الآخرين غير واضح.
لذا، يجب أن يبحث مسؤولو مكافحة الإرهاب في كل اتجاه ممكن: من المقاتلين الأجانب البارزين، إلى الطامحين في السفر، إلى العناصر الأقل كفاءة في المجال الجهادي. ومن أجل اجتثاث تهديد الإرهاب الجهادي، يجب على السلطات مواصلة الاستثمار في برامج إعادة تأهيل المتطرفين والعمل على تحقيق التوافق والوئام بين القيم الغربية والإسلامية.
*صحفي بلجيكي متخصص في الجماعات المتطرفة والإرهابية، يعمل في كبرى الصحف البلجيكية.