راجات جانجولي*
مقدمة
ربما يعطي انهيار خلافة “داعش” في نهاية عام 2017، ومقتل الخليفة المزعوم أبو بكر البغدادي على يد القوات الأمريكية الخاصة انطباعًا بأن الحرب ضد الإرهاب الجهادي قد أوشكت على الانتهاء. وقد يعزِّز من هذه النظرة حقيقة أن الجماعة الإرهابية الإسلامية الرئيسة الأخرى، تنظيم القاعدة، تعاني حالة تراجع منذ الغزو والاحتلال الأمريكي لأفغانستان في عام 2001، ومقتل أسامة بن لادن، زعيم التنظيم، الذي كان يتمتع بشخصية كاريزمية، على يد القوات الأمريكية الخاصة أيضًا في باكستان في عام 2011. غير أن الواقع أبعد ما يكون عن هذا الانطباع الزائف، لا سيما في جنوبِ وجنوبِ شرق آسيا.
أفغانستان
بداية، يمكن القول إن الإرهاب الجهادي هو التهديد الأكثر فتكًا الذي يواجه الدول والشعوب في جنوب آسيا اليوم. ويتفق معظمُ الخبراء في أفغانستان على أن حركة طالبان، الجماعة الإسلامية السنية المتحالفة مع تنظيم القاعدة، والتي تريد إعادةَ فرضِ حكم إسلامي صارم في الدولة، قد هزمت فعليًا قواتِ حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، والقوات الحكومية الأفغانية من خلال الاستيلاء على قرابة 70٪ من أراضي الدولة وتدير حكومة موازية في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
ويبدو أن قوات طالبان تتمتع بالمرونة والقدرة والعزيمة، ويمكنها أن تشنَّ هجماتٍ حتى على المناطق شديدة التحصين في العاصمة كابول. لقد نجحت في إضعاف قوات الاحتلال الأجنبية على مدار أكثر من ثمانية عشر عامًا من القتالِ المتواصل، ويبدو أن الحكومة الأمريكية تعترف بهذه الحقيقة من خلال بحثها الحثيث عن طريقة للخروج من أفغانستان(1). ما زاد الأمور تعقيدًا في أفغانستان هو الصعود المطرد لتنظيم داعش. وقد جاء تمدد الفرع الأفغاني لداعش، تنظيم الدولة الإسلامية- ولاية خراسان، نتيجة لتطورين رئيسين: انشقاق الفصائل المتشددة المتطرفة من طالبان والانضمام إليه، والعودة المستمرة للجهاديين من سوريا إثر انهيار الخلافة. وقد أدى هذا إلى زيادة إرباك المشهد السياسي والوضع الأمني في أفغانستان. ففي الآونة الأخيرة، نفَّذَت ولاية خراسان هجماتٍ إرهابية ضد السكان المدنيين والمسؤولين الحكوميين وقوات حلف الناتو/ القوات الأفغانية، بل وحتى ضد حركة طالبان نفسها(2).
باكستان
يأتي الإرهابُ الجهادي في أفغانستان بالأساس من باكستان. ذلك أنه على مدار العقود الخمسة الماضية، أنشأتِ المؤسسةُ العسكرية القوية وأجهزة الاستخبارات الباكستانية، وتحديدًا وكالة الاستخبارات (ISI)، “مصنعًا” جهاديًا للإرهاب داخل الدولة وعكفت على رعايته وتعزيزه(3). وقاد تنامي القوى الإسلامية في باكستان إلى تحقيق غرضين رئيسين للجيش ووكالة الاستخبارات الباكستانية: الأول أنها تمثل ثقلًا موازنًا للأحزاب السياسية السائدة، وقاعدة دعم موالية للجيش خلال تحركاته المتكررة لفرض سيطرته على مفاصل الدولة.
والغرض الثاني هو أنه يستطيع استخدام القوى الجهادية غير الرسمية “كذراعٍ غير رسمي” للجيش لتحقيق أهدافه الاستراتيجية، بطريقة يمكن إنكارها في الدول المجاورة، لا سيما أفغانستان والهند(4). ولذلك، رغم الضغوط الدولية الهائلة، فإن الجيش الباكستاني لم يتخذ خطوات جديّة ضد الجماعات الجهادية مثل “جيش محمد”، و”عسكر طيبة”، و”شبكة حقاني”، وعدد كبير من الجماعات المشابهة. ونتيجة للأرضية الخصبة التي هيأها الجيش ووكالة الاستخبارات، عندما انقلبت بعض هذه الجماعات على رعاتها -خاصة حركة طالبان باكستان- لم تكن هناك قدرة لقمعها.
الهند
من ناحيةٍ أخرى، تعرضتِ الهندُ لهجماتٍ جهادية لا هوادة فيها من جماعات قادمة من باكستان، لا سيما منذ اندلاع التمرد المسلح في إقليم جامو وكشمير. وفي هذا الإقليم، خاصة منطقة وادي كشمير، تحولت الاحتجاجات السياسية والمظاهرات الطلابية في أواخر فترة الثمانينيات إلى تمردٍ مسلح شامل يطالب بالاستقلال بقيادة “جبهة تحرير جامو وكشمير”. وبحلول أوائل التسعينيات، كانتِ الجماعاتُ الجهادية المتمركزة في باكستان قد تمكنت من اختطاف الحركة. وأطلقت هذه الجماعات، خاصة “حزب المجاهدين”، حملة إرهاب في الوادي تهدف إلى التطهير العرقي للسكان غير المسلمين. على سبيل المثال، تم ذبح عائلات “بانديت” الهندوسية وإرغامها على النزوح من الوادي. كما تم إجبار المسلمين المعتدلين على قبول أجندة الجهاديين(5).
كما نفَّذت جماعاتٌ جهادية أخرى مثل “جيش محمد” و”عسكر طيبة” هجماتٍ إرهابية في كشمير ومناطق أخرى في الهند، لا سيما محاولة تفجير البرلمان الهندي في نيودلهي عام 2002، وحصار مومباي الإرهابي في عام 2008. وفي الآونة الأخيرة، نفَّذ “جيش محمد” هجماتٍ إرهابية ضخمة ضد قوات الأمن الهندية، في منطقتي “أوري” و”بولاما”، ما دفع الهند إلى شن عملياتٍ انتقامية ضد معسكرات إرهابية داخل باكستان، منها على سبيل المثال الغارات الجوية الهندية على منطقة “بالاكوت” في فبراير 2019. وقد حاول الهنود أيضًا تفكيك منصات إطلاق الإرهابيين على طول خط المراقبة في إقليم جامو وكشمير باستخدام تكتيكات متنوعة، مثل تنفيذ غارات باستخدام قوات الكوماندوز في أعقاب الهجمات التي استهدفت بلدة “أوري” في عام 2016.
علاوة على ما سبق، هناك تطور حديث يثير قلقاً عميقاً في إقليم جامو وكشمير، يتمثل في تصاعد شعبية داعش وأيديولوجيته المتعلقة بالخلافة خاصة بين الشباب الكشميري المسلم في الوادي(6). ويبدو أن هؤلاء الشباب، وكثيرٌ منهم متعلمون جيدًا، قد أصيبوا بخيبة أمل من الجماعات الجهادية المتمركزة في باكستان، التي دفعت بشكل أساسي أجندة باكستان الاستراتيجية. ويبدو أن هؤلاء الشباب قد راقت لهم الأيديولوجيا الجهادية العالمية لداعش، لا سيما رغبتها في إقامة خلافة إسلامية تمتد من إفريقيا إلى جنوب شرق آسيا. وفي إطار هذا الطموح، يتحدث الجهاديون الكشميريون المنتمون لداعش عن “غزوة الهند“، الهدف الاستراتيجي المتمثل في السيطرة السياسية على شبه القارة الهندية من خلال حرب مقدسة وتحويلها إلى ولاية من ولايات الخلافة(7).
بنجلاديش والمالديف وسريلانكا
من ناحيةٍ أخرى، شهدتِ الدول الأصغر في جنوب آسيا، سواء ذات الأغلبية المسلمة (مثل بنجلاديش والمالديف) أو ذات الأقلية المسلمة (مثل سريلانكا) تناميًا مقلقًا في شعبية الأيديولوجيا الجهادية، خاصة بين الشباب الساخط، حيث ينضم كثير منهم الآن بشكل علني إلى تنظيمي داعش والقاعدة. وفي بنجلاديش، التي يبلغ عدد سكانها قرابة 168 مليون نسمة، 90% منهم من المسلمين السنة، أقدم جماعة جهادية ناشطة هي الجماعة الإسلامية. وتضم الجماعة وجناحها الطلابي، شهاترا شيبير (ICS)، أعضاؤها بشكلٍ رئيس من المعاهد الدينية الديوبندية التي انتشرت بصورة كبيرة في جميع أنحاء الدولة. وعلى غرارِ جماعة الإخوان المسلمين في مصر، يتم تنظيم الجماعة وجناحها الطلابي في شكل مجموعات شديدة الترابط والتماسك، وتسعى إلى تحويل بنجلاديش إلى إمارة إسلامية شبيهة بنظام طالبان (1996-2001).
علاوة على هذه الجماعات، هناك قوى إسلامية أخرى، أبرزها “حركة الجهاد الإسلامي”، و”جماعة المجاهدين”، التي تنشر خطاب الكراهية الذي أدى إلى العديد من الهجمات الإرهابية، معظمها باستخدام القنابل والسكاكين. وفي السنواتِ الأخيرة، شنت هذه الجماعات هجماتٍ ضد المدونين والصحفيين العلمانيين، والأقليات، والسياسيين، وأفراد الأمن والناشطين الاجتماعيين والسياسيين البارزين. وقد أصدرت محاكم بنغالية أحكامًا بالإعدام على عدد من أعضاء الجماعة الإسلامية بسبب جرائم الحرب التي ارتكبت خلال حرب الاستقلال في عام 1971.
كما أن الدولتين الجزيرتين، المالديف وسريلانكا، لم تخلوا من العنف الجهادي في الآونة الأخيرة. فلقد شهدت المالديف تناميًا في تطرف الشباب المسلم، ويعود ذلك بشكل كبير إلى تشجيع الرئيس السابق مأمون عبد القيوم والدعاة الإسلاميين المتشددين الذين رعاهم نظام عبد القيوم. وتوجهت مجموعة كبيرة، مقارنة بعدد السكان، من المقاتلين المتطرفين (قرابة 200 شخص) إلى سوريا للانضمام إلى داعش والمساعدة في إدامة أمد الخلافة(8). تطرف مسلمي سريلانكا الصغيرة أو أقلية المورو، التي توجد بشكل رئيسي في المنطقة الشرقية، يحدث أيضًا منذ سنوات. وفي ذروة الحرب الأهلية بين التأميل والسنهال، كانت تقع مصادمات بشكل دوري بين نمور التاميل والمسلمين. ولحماية مجتمعهم من عنف النمور التأميل، سعى الشبان المسلمون إلى الحصول على التوجيه والدعم من الجماعات الجهادية مثل تنظيم القاعدة، بل نظموا أنفسهم في ما يُسمى بـ “فرق الموت” التي تحمل اسم أسامة(9). وبمجرد انتهاء الحرب الأهلية مع هزيمة نمور التاميل في عام 2009، هدأت الأمور لفترة من الوقت.
أدى صعود داعش وإقامة “الخلافة” المزعومة في سوريا والعراق إلى اندلاع موجة أخرى من التطرف، خاصة بين أفراد الجماعات الصغيرة المغمورة. ففي 21 أبريل 2019، نفَّذت إحدى هذه المجموعات، جماعة التوحيد الوطني، ثمانية تفجيرات انتحارية أسفرت عن مقتل أكثر من 200 شخص في أماكن عدة، بما في ذلك فندقان فخمان وثلاث كنائس خلال الاحتفال بعيد الفصح(10). ويلاحظ أن المشتبه به الرئيس، زهران هاشم، كان داعية إسلاميًا محليًا في مسقط رأسه كاتانكودي في شرق سريلانكا، وكان معروفًا بآرائه المتطرفة، ويدعو إلى الجهاد ودعم تنظيم داعش والخلافة(11). ووردت تقارير أن أحد رفاقه، عبد اللطيف جميل محمد، قد اعتنق الفكر المتطرف في أستراليا، حيث عاش من 2009-2013 وحصل على شهادة في الدراسات العليا(12). ويبدوا أن الهجمات الانتحارية، التي اعتقد في البداية أنها زائفة، والتي نفذت للانتقام من الهجوم الذي استهدف مسجد كرايستشيرش في نيوزيلندا من قبل شخص متعصب لتفوق أبيض، قد خلقت توترات طائفية بين المسيحيين والمسلمين في سريلانكا.
بورما
وإذا تحولنا إلى جنوبِ شرق آسيا، سنجد أن الصورة لا تختلف كثيرًا. ففي بورما، شكّل الاندماج الوطني تحديًا رئيسًا، لا سيما فيما يتعلق بالمجموعات العرقية غير البورمية مثل الشان والكارين والكاشين والأراكان والروهينجيا. وعلى مدار السنوات الماضية، خاض الجيش البورمي معارك ضارية مع الجماعات المتمردة التي تنتمي إلى مجموعات عرقية متنوعة، واستخدمت الدولة أشكالًا مختلفة من أساليب السيطرة والقمع لإدارة التوترات بين الأعراق.
وقد اندلعت المواجهات الأخيرة في مقاطعة راخين في عام 2017 بعد أن هاجم ” جيش إنقاذ روهينجيا أراكان” مخفرًا للشرطة في 25 أغسطس، مما أسفر عن مقتل 12 من أفراد الشرطة. واتهمتِ الدولة جيش الإنقاذ بأنه منظمة إرهابية واتهمت قادته بالتحريض على الجهاد. ووفقًا لـ”مجموعة الأزمات الدولية”، ولد عطا الله قائد جيش الإنقاذ، في باكستان وتربى في السعودية، حيث اعتنق الفكر السلفي(13). وقد رفض جيش الإنقاذ وصفه بالإرهابي وقال إن أهدافه تتمثل في “الدفاع عن الروهينجيا وإنقاذهم وحمايتهم” من قمع الدولة. ومع ذلك، تبنى الجيش البورمي سياسة الأرض المحروقة، ما تسبب في حدوث أزمة إنسانية كبرى. ونتيجة للقمع الوحشي من قبل الجيش البورمي، نزح أكثر من مليون لاجئ من الروهينجيا إلى بنجلاديش المجاورة.
تايلاند
بالانتقال إلى تايلاند، الجارة الجنوبية لبورما، نجد أنه كان عليها أيضًا التعامل مع التمرد العرقي والديني المستمر منذ عقود في المقاطعات الجنوبية الأربع التي يسكنها المسلمون الملايو: سونجخلا، باتاني، يالا وناراثيوات (التي كانت تشكل في الأصل سلطنة “فطاني” “باتاني”). كانت الشكوى الرئيسة للقوميين الملايو هي دمجهم بالقوة في تايلاند من قبل الحكام الاستعماريين البريطانيين، ثم القمع والإهمال من قبل الدولة التايلاندية. ومن ثم، طالب الملايو بالاستقلال والحكم الذاتي. ولمّا لم يتم منحهم ما يريدون، نشأت حركة تمرد الملايو للمطالبة بالانفصال واستقلال المقاطعات الجنوبية الأربع. وفي 4 يناير 2004، اقتحمت مجموعة من أكثر من خمسين مسلحًا مستودعًا للجيش في مقاطعة ناراثيوات، ما أسفر عن مقتل أربعة جنود والاستيلاء على أكثر من 300 قطعة سلاح وإحراق 20 مدرسة. شكّل هذا الحادث تصعيدًا خطيرًا، ما دفع الجيش التايلاندي للرد بحملة قمع شديدة(14). وتعتقد منظمةُ العفو الدولية أنه على مدار العقد ونصف العقد التاليين، أدار الجيش التايلاندي ما لا يقل عن 21 مركز احتجازٍ غير رسمي في الجنوب، حيث تعرض المعتقلون للتعذيب، بالإضافة إلى إدارة سجنين رسميين للمشتبه في أنهم من متمردين(15).
القمع الشديد الذي مارسته القوات التايلاندية دفع التمرد في باتاني للعمل السري. ومع مرور الزمن، حدث تغيير هائل في أوساط المتمردين، وأصبح تأثير داعش، وحركة طالبان، وتنظيم القاعدة، على الجيل الجديد من المتمردين قويًا. واليوم، لا تتحدث سوى قلة قليلة في باتاني عن القومية الملاوية، وأصبح معظم الحديث يدور حول الجهاد والخلافة(16). وتم كسر حالة الهدوء الهشة والمضللة في باتاني في 5 نوفمبر 2019 عندما هاجم مسلحون نقطة تفتيش تابعة للشرطة في مقاطعة “يالا” وقتلوا 15 شخصًا، بينهم ضباط شرطة(17). ورغم أنه لا يمكن بعدُ التأكد من هوية المجموعة التي نفَّذت الهجوم، فإن مصادر حكومية وجَّهت أصابعَ الاتهام إلى الجبهة الوطنية الثورية (BRN)، إحدى الجماعات المتمردة الثلاث الرئيسة الناشطة في الدولة.
الفلبين
بالانتقال إلى الفلبين، نجد أن هناك تهديدًا إرهابيًا كبيرًا يواجه مقاطعة مينداناو الجنوبية، التي تتراوح فيها التوترات العرقية والدينية المستمرة منذ عقود بين المد والجذر. وتجدر الإشارة إلى أن الأغلبية الساحقة من سكان مينداناو هم من المسلمين السنة، وقد استاءوا لفترة طويلة من هيمنة الشمال المسيحي. المنظمة الوطنية الرئيسة في مينداناو التي تدعو إلى الاستقلال والحكم الذاتي هي جبهة مورو للتحرير الوطني. وعلى مدار السنوات الماضية، عقدتِ الجبهةُ عدّة جولات من محادثات السلام مع مختلف الأنظمة التي توالت على حكم الفلبين. ولكن للأسف لم يتم تنفيذ أيٍّ من اتفاقيات السلام بشكلٍ صحيح، وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تحول التمرد القومي للمورو إلى جهاد إسلامي تحت وصاية جماعة أبو سياف.
لم يوافق أبو سياف على سعي جبهة مورو إلى الحكم الذاتي، وأراد إقامةَ دولة إسلامية مستقلة. مؤسس الجبهة، عبد الرزاق أبو بكر جنجلاني، كان داعيةً إسلاميًا شارك في القتال في الحرب السوفيتية-الأفغانية، ويُقال إنه التقى أسامة بن لادن، وتأثر بأفكاره. وقد زوّد تنظيم القاعدة جبهة مورو بالتمويل والتدريب، خلال فترة تأسيسها. وفي عام 2014، بايع زعيمُ جماعة أبو سياف إسنيلون هابيلون داعشَ وأعلن نفسَه “أميرًا” للخلافة في جنوب شرق آسيا. وتمكن هابيلون من توحيد صفوف جماعة أبو سياف مع ثلاثِ مجموعات متمردة صغيرة متشددة أخرى موالية لداعش، التي رفضت محادثات السلام مع الحكومة، ودعت إلى إقامة الخلافة.
كانت جماعة “ماؤوتي” واحدةً من أكثر الفصائل الانفصالية المتشددة قوة. تم تأسيسها قبل قرابة خمس سنوات من قبل عمر وعبد الله ماؤوتي، من منطقة “لاناو ديل سور” وأعضاء في قبيلة ماراناو. كلاهما درس في الشرق الأوسط (درس عمر في جامعة الأزهر في القاهرة، ودرس عبد الله في الأردن)، ويتحدثان اللغة العربية ولديهما معرفة جيدة بالفكر السلفي والجهادي. في عام 2017، حاول ماؤوتي وأبو سياف السيطرة على بلدة ماراوي في مينداناو، ما أدى إلى نشوب حرب شرسة مع الجيش الفلبيني بدعمٍ من القوات الأمريكية الخاصة(18)، أسفرت عن مقتل أكثر من ألف شخص، ونزوح مئات الآلاف. وزُعم أن العديد من المقاتلين الأجانب من ماليزيا وإندونيسيا والشيشان واليمن قاتلوا إلى جانب قوات ماؤوتي/أبو سياف. وفي 16 أكتوبر 2017، تمكنتِ القواتُ الفلبينية أخيرًا من تعقب هابيلون وماؤوتي وقتلهما. لكن تمكن مئات المتشددين من الفرار، ويعتقد أنهم يختبئون في بعض الجزر النائية في منطقة مينداناو. ومن ثم، فإن الحملة الجهادية في مينداناو لم تنته بعد.
إندونيسيا وماليزيا
والآن، نتحول إلى إندونيسيا وماليزيا، وهما دولتان ذواتا أغلبيةٍ مسلمة في جنوب شرق آسيا، إلى جانب دولٍ أخرى؛ مثل سلطنة بروناي. ورغم أن إندونيسيا تُعد أكبر دولة إسلامية في العالم، فإنها واجهت توتراتٍ إثنية خطيرة في مناطق مثل آتشيه وبابوا الغربية. وفي السنوات الأخيرة، تجابه الدولة أيضًا تحديًا خطيرًا يتمثل في الإسلاميين المتطرفين الذين يريدون فرض الشريعة. حاولتِ الدولةَ التعامل مع الإسلاميين من خلال سياسات الاستمالة (الجزرة) والقمع (العصا). وشهدت ماليزيا أيضًا توتراتٍ إثنية خطيرة بين الأغلبية الماليزية والأقليات الهندية/الصينية في الماضي. وسعتِ الدولة لإرضاء “أبناء الأرض” الماليزيين من خلال منحهم معاملة تفضيلية (سياسات العمل الإيجابي) في التوظيف الحكومي والتعليم والرعاية الاجتماعية، وما إلى ذلك. لكن ظلت المؤشرات العلنية للأسلمة تنمو باطراد. وقد انفصلت سنغافورة عن ماليزيا في منتصف الستينيات. وأصبحت واحدةً من أسرع الاقتصادات نموًا وتنافسية في العالم ومركزًا رئيسًا للشحن والتجارة الدولية. لكن الأمر السيئ هو أن سنغافورة قد شهدت انضمام عدد كبير نسبيًا، مقارنة بعدد سكانها الصغير، لداعش في سوريا. لذلك تشعر الأجهزة الأمنية في سنغافورة بقلقٍ بالغ إزاء تهديد الإرهاب الذي يمكن أن يشكله الجهاديون العائدون(19).
الخلاصة
من مقارنةِ الحالات المذكورة أعلاه، عبر جنوب وجنوب شرق آسيا، يمكن التوصل إلى ما يلي:
أولًا، لقد استخدمت دول جنوب وجنوب شرق آسيا القوة والقمع بشكلٍ رئيس في تعاملها مع الإرهاب الجهادي. في أفغانستان، لعبتِ القواتُ الخاصة والغارات الجوية التابعة لحلف الناتو دورًا رئيسًا في محاولة الحد من قدرة حركة طالبان، وهذا مكّن الدولة الأفغانية من البقاء على قيد الحياة خلال الفترة الماضية، ولكن مع تكاليف باهظة، بشرية وسياسية، من المرجح أن تثبت عدم قدرتها على الاستمرارية بمجرد انسحاب الولايات المتحدة.
وفي الهند، أطلقتِ الحكومةُ يد قوات الأمن في إقليم جامو وكشمير (بموجبِ قانون الصلاحيات الخاصة للقوات المسلحة) ما أدَّى إلى تحييد العديد من الإرهابيين الجهاديين. وفي بنجلاديش، استخدمتِ الدولةُ القوة في التعامل مع الإرهاب الجهادي، ما أسفر عن مقتل العديد من الإسلاميين البارزين أو إعدامهم.
وفي سريلانكا، اتخذتِ الحكومةُ إجراءاتٍ صارمة ضد الإسلاميين والجهاديين، في أعقاب تفجيرات عيد الفصح عام 2019. ومهما كانت أوجه القصور التي تعتري هذه السياسات، فقد جرى تنفيذها، على الأقل، وفق إطار قانوني، وهو أمر لا يمكن قوله عند الحديث عن بورما وتايلاند والفلبين، حيث ردّت تلك الدول على تهديد الإرهاب الجهادي بقوة وقمع هائلين. وفي جميع الحالات الثلاث، كان هناك تعذيب واسع النطاق للمشتبه فيهم والاعتقال والقتل خارج نطاق القانون. لقد مارس الجيش البورمي سياسةَ “الأرض المحروقة” التي ترقى للجرائم ضد الإنسانية في ولاية راخين ضد مسلمي الروهينجيا. وأصبح الجيش التايلاندي سيئ السمعة بسببِ انتهاكه الواسع لحقوق الإنسان في جنوب تايلاند. وأذن الرئيس الفلبيني دوترتي لقواته بتدمير ماراوي وتسويتها بالأرض. ورغم أن القمع الشامل أدى بالتأكيد إلى تقليص عمليات الإرهابيين الجهاديين، والحد منها، فإن الديناميات الأساسية ما زالت قائمة، وستعود مجددًا عندما تسنح الفرصةُ لذلك.
ثانيًا، تلقت دولٌ في جنوب وجنوب شرق آسيا دعمًا عسكريًا واستخباراتيًا وسياسيًا كبيرًا من الدول الغربية في معركتها ضد الإرهاب الجهادي. في أفغانستان، اضطلعت القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو بعمليات القتال الرئيسة ضد طالبان وداعش. وفي قتالها ضد الجهاديين الذين ترعاهم باكستان، في جامو وكشمير، تلقتِ الهندُ دعمًا استخباراتيًا وسياسيًا من الولايات المتحدة، ودولٍ غربية أخرى، ومن إسرائيل أيضًا. علاوة على ذلك، تشارك الهند المعلومات الاستخبارية مع بنجلاديش وسريلانكا والمالديف، فيما يتعلق بعمليات الجهاديين والإرهابيين.
واتضح أن الهند شاركت سريلانكا معلوماتٍ استخبارية بشأن احتمال وقوع هجمات عيد الفصح عام 2019، لكن السلطات السريلانكية لم تتمكن من التعامل معها في الوقت المناسب.
وفي جنوبِ شرق آسيا، شاركتِ القواتُ الخاصة الأمريكية والأسترالية، بشكلٍ مكثف، في تدريب الجيش الفلبيني على عمليات مكافحة الإرهاب والتمرد. ومعلوم أن القوات الأمريكية الخاصة تشارك في العمليات العسكرية إلى جانب القوات الفلبينية ضد متمردي أبو سياف الموالين لداعش في مينداناو. أما الصين، فقد درَّبت القوات العسكرية البورمية والتايلاندية على عمليات مكافحة التمرد.
وختامًا، فمن المعروف جيدًا أن الجهاديين، في جنوب وجنوب شرق آسيا، أقاموا شبكة تعاون لا تقتصر على أنفسهم فحسب، بل تمتد إلى الجماعات السلفية الناشطة في الشرق الأوسط. وأقامت معظمُ الجماعات الجهادية الناشطة في جنوب وجنوب شرق آسيا روابط قوية مع تنظيم القاعدة في فترة التسعينيات، وقد اكتسبت بعض كوادرها خبرة في الحرب أفغانستان في فترة الثمانينيات، حيث قاتلوا إلى جانب المجاهدين الأفغان أثناء محاولتهم – التي نجحت في نهاية المطاف بمساعدة الغرب- لتحرير وطنهم من الاحتلال السوفيتي.
وعقب انتهاء الحرب الأفغانية في عام 1989، عاد بعض هؤلاء المقاتلين الذين ينتمون لدول جنوب وجنوب شرق آسيا إلى ديارهم، وأنشأوا شبكاتٍ جهادية تلقت التمويل والدعم والمشورة من تنظيم القاعدة. من ناحية أخرى، سافر قدامى المحاربين في الجهاد الأفغاني إلى أماكن مثل جامو وكشمير وجنوب تايلاند ومينداناو، للمشاركة في المعارك الجهادية المحلية هناك.
ورغم أن العديد من المنتمين لتنظيم القاعدة قد ظلُّوا على ولائهم للتنظيم، في أعقاب مقتل بن لادن وإقامة داعش للخلافة المزعومة، فإن جنوب وجنوب شرق آسيا شهدا انشقاق أعداد كبيرة من هؤلاء وانضمامهم لداعش.
ومن ثم، توافد العديد من المتشددين الإسلاميين من تلك الدول إلى سوريا لدعم الخلافة. وأثبتتِ المعرفة والخبرة التي اكتسبوها هناك، خاصة في استخدام المتفجرات، فاعلية كبيرة للجماعات الجهادية المحلية لدى عودتها. ويعتقد أن كمياتٍ طائلة من الأموال قد تدفقت على جماعات جهادية عدة، في جنوب وجنوب شرق آسيا، من شبكات داعش والقاعدة في الشرق الأوسط. قصارى القول، لقد نمت قوةُ الإرهابيين الجهاديين في جنوب وجنوب شرق آسيا، بشكلٍ كبير، على مدار العقدين الماضيين.
_______________________________________
(*) خبيرٌ أمني واستراتيجي دولي يهتم بالشؤون السياسية الآسيوية، في جامعة مردوخ بأستراليا.
المراجع:
[1] Ryan Crocker, “I was Ambassador to Afghanistan: This Deal is a Surrender.” The Washington Post, January 29, 2019. Available at: https://www.washingtonpost.com/opinions/i-was-ambassador-to-afghanistan-this-deal-is-a-surrender/2019/01/29/8700ed68-2409-11e9-ad53-824486280311_story.html
[2] Jason Burke, “With Kabul Wedding Attack, ISIS Aims to Erode Taliban Supremacy.” The Guardian (U.K.), August 19, 2019. Available at: https://www.theguardian.com/world/2019/aug/19/with-kabul-wedding-attack-isis-aims-to-erode-taliban-supremacy
[3] See, for example, Ahmed Rashid, Descent into Chaos: Pakistan, Afghanistan and the Threat to Global Security. New York: Penguin Books, 2008.
[4] See, for example, C. Christine Fair, Fighting to the End: The Pakistani Army’s Way of War. New York: Oxford University Press, 2014; and T.V. Paul, The Warrior State: Pakistan in the Contemporary World. New York: Oxford University Press, 2014.
[5] Rajat Ganguly, “India, Pakistan and the Kashmir Insurgency.” Asian Studies Review, Vol. 25, No. 3, September 2001, pp. 309-334.
[6] “ISIS Announces New ‘Branch’ in India after Clashes in Kashmir.” The Economic Times, May 12, 2019. Available at: https://economictimes.indiatimes.com/news/defence/isis-announces-new-branch-in-india-after-clashes-in-kashmir/articleshow/69288536.cms
[7] “JeM’s ‘Ghazwa-e-Hind’ Brought India-Pakistan on Brink of War Twice in Twenty Years.” The Economic Times, March 3, 2019. Available at: https://economictimes.indiatimes.com/news/defence/jems-ghazwa-e-hind-brought-india-pakistan-on-brink-of-war-twice-in-20-yrs/articleshow/68242129.cms
[8] Siddharthya Roy, “The Maldives: The New Kid on the Islamist Block.” The Diplomat, March 04, 2019. Available at: https://thediplomat.com/2019/03/the-maldives-the-new-kid-on-the-islamist-block/
[9] See, for example, Bart Klem, “Islam, Politics and Violence in Eastern Sri Lanka.” The Journal of Asian Studies, Vol. 70, No. 3 (August), 2011, pp. 730-753.
[10] “Sri Lanka Attacks: More than 200 Killed as Churches and Hotels Targeted.” BBC News, April 21, 2019. Available at: https://www.bbc.com/news/world-asia-48001720
[11] Hannah Beech, “Sri Lankan Accused of Leading Attacks Preached Slaughter. Many Dismissed Him.” The New York Times, April 25, 2019. Available at: https://www.nytimes.com/2019/04/25/world/asia/sri-lanka-attacks-mastermind.html
[12] “‘A Completely Changed Person’: Sri Lanka Bomber Radicalized in Australia, Friend Says.” SBS News, April 27, 2019. Available at: https://www.sbs.com.au/news/a-completely-changed-person-sri-lanka-bomber-radicalised-in-australia-friend-says
[13] “Burma: Who Are the Arakan Rohingya Salvation Army?” BBC News, September 6, 2017. Available at: https://www.bbc.com/news/world-asia-41160679
[14] Nicholas Farrelly, “Thailand’s Triple Threat.” Lowy Institute for International Policy Analysis, July 2017, pp. 1-16.
[15] “Thailand: Torture in Southern Counter-insurgency.” Amnesty International Report (ASA 39/001/2009), January 13, 2009. Available at: https://www.amnesty.org/download/Documents/48000/asa390012009eng.pdf
[16] “Jihadism in Southern Thailand: A Phantom Menace.” International Crisis Group Asia Report No. 291 (Pre-release draft), November 8, 2017.
[17] “Gunmen Kill 15 in Southern Thailand’s ‘Biggest Attack’ in Recent Years.” BBC News, November 6, 2019. Available at: https://www.bbc.com/news/world-asia-50312920
[18] Maxine Betteridge-Moes, “What Happened in Marawi?” Al Jazeera News, October 30, 2017. Available at: https://www.aljazeera.com/indepth/features/2017/10/happened-marawi-171029085314348.html
[19] “How 15 Singaporeans were Radicalized by ISIS Ideology.” The Straits Times, July 16, 2017. Available at: https://www.straitstimes.com/singapore/radicalised-in-singapore