في كتابها بعنوان «الإخوان المسلمون في المجتمع: الحياة السياسية اليومية، العمل الاجتماعي والإسلاموية في مصر مبارك»، تستكشف ماري فانتزيل -أستاذة الاقتصاد والعلوم السياسية الزائرة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة- تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في المجتمع المصري. تتمتع فانتزل بخبرة طويلة تصل إلى قرابة 15 عامًا في العلوم السياسية وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا.
الجدير بالذكر أن جماعة الإخوان المسلمين ودورها في الحياة السياسية والمجتمع المصري في أعقاب ما يسمى بـ “الربيع العربي”، موضوع جدال ساخن ووجهات نظر مختلفة اختلافًا جذريًا. ذلك أن بعض الباحثين يُصوِّرون جماعة الإخوان المسلمين على أنها جماعة قمعتها الحكومة المصرية ويحاولون تصوير الانتفاضة الشعبية ضد حكم محمد مرسي على أنها انقلاب. ويرى باحثون آخرون أن الجماعة هي قوة غير ديمقراطية تبنت سياسات قوضّت التماسك الاجتماعي، وأشعلت الاضطرابات الاجتماعية، لا سيّما خلال فترة رئاسة مرسي التي لم تدم طويلاً (2012-2013).
كتاب فانتزيل، الذي بين أيدينا، يميل أكثر تجاه تبني وجهة النظر الثانية. وينصب تركيزها الرئيس على إظهار طبيعة جماعة الإخوان المسلمين ذات الوجهين، حيث تهدف في العلن إلى تصوير نفسها على أنها “الجار الفاضل” في محاولة لجذب المتعاطفين معها. وفي الوقت نفسه، تدعو الجماعة، في السر، إلى تحويل المجتمع وفقًا لرؤيتها الخاصة للإسلام.
كما تقدم فانتزل تحليلاً إثنوجرافياً لسياسات جماعة الإخوان المسلمين والأنشطة الاجتماعية في ثلاث مناطق في القاهرة الكبرى (مدينة نصر، وحلوان، و15 مايو) وكيف تبنت الجماعة تكتيكات تعبئة فريدة لجذب فئات مجتمعية مختلفة.
وتحلل فانتزل الطرق التي شاركت بها جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات المصرية، من خلال الاستفادة من القواعد غير الرسمية التي وضعها النظام، التي أعاقت الأحزاب السياسية المنظمة من لعب دور نشط، ما ترك مجالاً لجماعة الإخوان للعمل من خلال الجمعيات الخيرية. وقد وفر ذلك للجماعة حضورًا شعبيًا قويًا، حيث ترتبط السياسات الانتخابية في مصر ارتباطًا وثيقًا بتوفير مؤن الرعاية الاجتماعية، وفقًا لتقييم فانتزل.
معاودة الظهور السياسي
تتتبع المؤلفة إعادة الظهور السياسي للإخوان المسلمين في مصر إلى فترة السبعينيات، عندما أُطلق سراح شخصيات بارزة من السجن في عهد الرئيس المصري أنور السادات. فلقد استخدم السادات جماعة الإخوان المسلمين وشجعهم على إعادة تنظيم صفوفهم لمواجهة بقايا حكومة الرئيس السابق جمال عبد الناصر، ولتأكيد سلطته في مواجهة الناصريين.
وقد دفع اغتيال السادات على يد إرهابي إسلاموي في أكتوبر 1980، الرئيسَ الذي تلاه وهو حسني مبارك إلى تبني موقف أكثر استيعابًا تجاه الجماعة. ففي عهد مبارك، وُصف أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بأنهم “إسلاميون معتدلون”. وتمكنت الجماعة من مواصلة أنشطتها من خلال الجامعات والجمعيات الخيرية والنقابات المهنية (الأطباء، والمهندسين، والصيادلة.. إلخ). لكن عندما أصبحت هذه النقابات المهنية قوية للغاية في التسعينيات، أمرت الحكومة بحل مجالس النقابات التي سيطر عليها الإخوان.
استمر الإخوان في ممارسة نفوذهم من خلال الجمعيات الخيرية. وحصل الأعضاء الذين ترشحوا كمستقلين على 88 مقعداً في الانتخابات البرلمانية لعام 2005، ما يشكل 20% من مجلس الشعب. واستغل الإخوان سلطتهم السياسية الجديدة وفتحوا مكاتب عدة تحت مظلة الجماعة يمكن للسكان المحليين أن يتقدموا إليها بمظالمهم. وكان هذا المستوى من التنظيم غير مسبوق منذ الخمسينيات.
ومرة أخرى، تؤكد فانتزل أن جماعة الإخوان المسلمين تدين بنجاحها لاستخدامها الفعّال لما يُعرف باسم العلاقة بين “الراعي والزبون” التي تدعم النظام الانتخابي في مصر. ونتيجة لذلك، تمكنت من إعادة توزيع الموارد والكفاءات التي اكتسبوها في مجالات لا يُنظر إليها على أنها سياسية بشكل مباشر، مثل الجامعات والجمعيات الخيرية والنقابات لأغراض انتخابية.
ادّعاء النزاهة كأسلوب للحشد
عند محاولة تحليل النجاح الانتخابي للإخوان المسلمين في عهد مبارك، تطرح فانتزيل حجتين تبدوان متناقضتين. فمن ناحية، تعزو النجاح إلى القاعدة الاجتماعية القوية للجماعة، ومن ناحية أخرى تقول إن نجاحها هو نتيجة لممارسات التصويت الأيديولوجية.
غير أنها تحسم هذا التناقض، وتفسر النجاح الانتخابي للجماعة بما تسميه سياسة “التظاهر بالنزاهة”. أحد أبعاد هذه السياسة هي استغلال الإسلام من أجل الاستفادة منه في حملتها الانتخابية. وثمة بعد آخر هو ترسيخ نفسها في الهياكل الدينية الخيرية، ما مكّنها من تصوير نفسها على أنها تنحاز “إلى جانب الشعب”. وقد ساعدت هذه الاستراتيجية جماعة الإخوان المسلمين على تعويض محدودية الوصول إلى الموارد العامة، مقارنة بالحزب الوطني الديمقراطي، الحزب الحاكم في عهد مبارك.
ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية لا تنفي حقيقة أن جماعة الإخوان المسلمين استخدمت رجال أعمال للمساعدة في تمويل حملاتها. وتؤكد فانتزل أن هذه التكتيكات كانت أساسية في نهج الإخوان المسلمين في حشد الناس للانتخابات.
الاستفادة من موارد الدولة
تحلل فانتزل الطرق التي تمكن بها أعضاء الجماعة في البرلمان من ممارسة أدوارهم بفضل مواردهم التنظيمية، ووصولهم إلى جهاز الدولة، واندماجهم الاجتماعي على المستوى المحلي، رغم أنهم كانوا جزءًا من منظمة محظورة.
وتقول إن وجود جماعة الإخوان المسلمين في دائرة انتخابية أدى إلى ظهور هيكل تنظيمي محدد، لم يتم دمجه في “التنظيم” إلا جزئياً. وسعى أعضاء البرلمان من جماعة الإخوان المسلمين للاستفادة من الامتيازات المرتبطة بمناصبهم في البرلمان، من أجل تقديم الخدمات إلى دوائرهم الانتخابية.
ومن ناحية أخرى، فإن “التنظيم” -الذي تصفه فانتزل بأنه يضم ثلاثة أبعاد مختلفة: الإداري والتعليمي والخاص بالأعمال التجارية- كان ينظم أنشطة لا تتعلق بموارد الدولة، ويقوم بها بشكل رئيس نشطاء الجماعة. وتوضح فانتزل أن البعد الإداري للتنظيم يتبع اللوائح الداخلية للإخوان بشكل وثيق جدًا.
العمل الخيري كسياسة
ترى فانتزل أن جماعة الإخوان المسلمين حاولت تصوير نفسها على أنها “جهة فاعلة أخلاقية”، وبالتالي تحاول تمييز نفسها عن غيرها من اللاعبين السياسيين، أي أولئك المنتسبين إلى الحزب الوطني الديمقراطي. وقد سمحت هذه الآليات للجماعة بالانخراط في أشكال خفيّة من التسييس التي تلعب على وتر الحساسيات الأخلاقية للناس ومشاعرهم.
ويمكن إرجاع هذا التطور إلى نظام السادات، الذي أيّد بنفسه توسيع الجمعيات الخيرية الإسلامية حتى تتمكن من تحمل مسؤولية الخدمات الاجتماعية التي كانت الدولة تتخلى عنها في أعقاب تبنيها لسياسات التحرر الاقتصادي.
وهكذا، شاركت الدولة والنظام، وكذلك جماعة الإخوان وغيرهم من الجهات الفاعلة الاجتماعية، في “تغيير مفهوم الرعاية الاجتماعية” من خلال أنشطتهم الخيرية، وفي اختزال السياسة في المستوى الجزئي للخدمات الاجتماعية. وكانت التصورات عمن يخدم، ومن لا يخدم، تحدد معايير الأحكام الشعبية عن النخب السياسية، التي غالبًا ما يُعبّر عنها في شكل “اقتصاديات الخير”.
خلال فترة برلمان 2005-2010، استخدم أعضاء البرلمان الإخوانيين شعار “معاً لما فيه الخير لمصر”، مُلخصين التزام الإخوان بمبدأ الخدمة والدور المحوري الذي يلعبه الدين في سياسة “الخير”.
اعتاد أعضاء البرلمان الإخوان ممارسة أربعة أنواع من الخدمات الاجتماعية. الأول هو التعليم والأنشطة الترفيهية، التي تهدف إلى توسيع جمهور الخدمات الاجتماعية للتنظيم من خلال الوصول إلى قطاعات مختلفة من السكان، من أفقر الفقراء، إلى الطبقة المتوسطة الدنيا التي تأثرت سلبًا أيضا بأوجه القصور في نظام التعليم العام، ولم يكن لديها سوى القليل من المال لإنفاقه على الأنشطة الترفيهية.
تمثلت الخدمة الثانية في تنظيم فعاليات عامة متنوعة بشكل سنوي، بما في ذلك احتفالات منح الجوائز للطلاب المتفوقين، والأمهات المثاليات، أو العمال المثاليين. أما النشاط الثالث فكان يشمل حملات الخدمة العامة، التي تتراوح بين العيادات الطبية المتنقلة أو القوافل الطبية، وعمليات تنظيف الشوارع. وتمثل النوع الرابع من الخدمات في توزيع المساعدات المالية أو الطبية أو الغذائية إلى السكان.
انتشار شبكات الخدمات هذه سمح للإخوان المسلمين بالتواصل مع الأفراد المتدينين الراغبين في المشاركة في أنشطة “الخير”. وبالإضافة إلى ذلك، كان الهدف من هذه الأنشطة هو تحقيق هدف آخر، وهو ترسيخ جماعة الإخوان ككيان متفوق أخلاقيًا، ونموذجاً يحتذى به. وهكذا، كان السلوك الأخلاقي أحد الدعائم الرئيسة لسياسة جماعة الإخوان المسلمين.
سلاح ذو حدين
تناقش فانتزل كيف أدّت ديناميات الاندماج الاجتماعي والسلوك الأخلاقي التي زرعتها جماعة الإخوان المسلمين إلى توترات كبيرة داخل التنظيم تفاقمت في فترة ما بعد عام 2011، ما تسبب في معارضة بعض الأعضاء وفك ارتباطهم وزيادة سخط الآخرين.
وتشرح كيف تشكّلت الشخصيات البارزة التي تجسد السلوك الأخلاقي في الدوائر الأعمق للجماعة. لقد شعر الأعضاء بأنهم مرتبطون ببعضهم البعض عبر روابط خاصة، ومرتبطين في الوقت نفسه بالمجتمع.
وتبين فانتزل أن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين تدربوا على العمل كنماذج مثالية للمسلمين الآخرين، وبالشعور بتفوقهم الأخلاقي على الآخرين. وبالتالي، كانت علاقاتهم بالأشخاص من خارج التنظيم معقدة. وقد وقعوا في تناقض بين أنشطتهم اليومية كجيران فاضلين داخل المجتمعات المحلية والحاجة النابعة من قناعتهم بالتفوق الأخلاقي والديني- إلى الالتزام بدوائر الجماعة الخاصة.
وبناء على ذلك، سوف يتعين على أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الزواج من أخوات أو بنات أقرانهم، وإرسال أطفالهم إلى المدارس التي تديرها الجماعة، وتأمين وظائف في الشركات المملوكة للجماعة، والذهاب إلى أطباء ومستشفيات الجماعة، وما إلى ذلك. كما كانوا يوزعون مساعدات على الأفراد المحتاجين، بما في ذلك أسر السجناء.
سقطت من عليائها
ترى فانتزل أن سياسة العمل الخيري للإخوان المسلمين انهارت خلال الفترة الحاسمة بين عامي 2011 و2013، ما فاقم حالة الاستقطاب داخل الجماعة، ومن ثم تشظي تنظيمها الداخلي. وترى أن الجماعة اعتمدت على استراتيجية خاصة هي تمييز نفسها عن منافسيها عن طريق سياسة اقتصاديات الخير. وكانت الآلية الرئيسة لهذا النهج هي تعزيز أشكال السلوك الفردية والجماعية التي استخدمت كوسيلة لترسيخ الجماعة اجتماعياً.
وجاء التناقض الرئيس في عام 2012، عندما دخل الإخوان البرلمان، حيث تجاهل نوابهم مناصبهم المحلية، وكرسوا أنفسهم للعمل التشريعي، على الرغم من افتقارهم إلى المهارات الأساسية في مجال وضع القوانين. هذا التحول تسبب في سخط الناخبين، الذين كانوا غاضبين من إهمال جماعة الإخوان المسلمين للقضايا المحلية. في الوقت نفسه، كان أعضاء البرلمان الإخوان يحاولون تمرير تشريع لتهميش مسؤولي نظام مبارك، الأمر الذي أغضب المسؤولين السابقين في الحزب الوطني.
علاوة على ذلك، فإن قبضة الجماعة على “حزب الحرية والعدالة” الجديد منعها من أن تكون أداة لتقديم المزيد من الخدمات الخيرية للمجتمع. وسرعان ما أصبح يُنظر إلى مرسي -أول عضو في الإخوان المسلمين يصبح رئيسًا- على أنه “فاشل” وغير قادر على الحكم. بالإضافة إلى ذلك، تبنى مرسي أجندة ليبرالية جديدة تتعارض مع مبادئ “الخير” التي دافع عنها الإخوان المسلمين. وهذا، إلى جانب جهوده المتفانية لإخضاع الدولة للإخوان المسلمين جعلته مكروهاً لدى العديد من الجماعات.
وهكذا، كل هذه العوامل أدّت إلى زوال جماعة الإخوان المسلمين في نهاية المطاف، وفي 25 ديسمبر 2013، صُنّفت الجماعة “منظمة إرهابية”. وبعد ستة أشهر فقط من عزل مرسي، أصبحت جماعة الإخوان المسلمين العدو الأول للشعب.
الخلاصة
يقدم كتاب فانتزل نظرة مُعمّقة على الأسباب التي أدّت إلى زوال جماعة الإخوان المسلمين في نهاية المطاف، التي كانت مرتبطة بخيبة أمل شعبية في الجماعة، بعد أن رأى المجتمع كيف استخدم الأعضاء سلطاتهم الجديدة لتعزيز نفوذهم على حساب الفئات الاجتماعية الأخرى في المجتمع المصري. وبالتالي، فإن تفسير فانتزل لزوال الجماعة يُناقض روايات أخرى، حاولت ببساطة تصوير جماعة الإخوان المسلمين على أنها قوة ديمقراطية قمعتها قوات الأمن المصرية.