بعد وقتٍ قصير من فوز حزب النهضة في تونس في انتخابات مرحلة ما بعد “الربيع العربي” والتي جرَت في أكتوبر 2011، نُقل عن الأمين العام لحزب النهضة آنذاك حمادي الجبالي قوله: “نحن في الخلافة السادسة إن شاء الله”1. وكان ذلك بالطبع قبل ثلاث سنوات من ظهور زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي في مسجد في الموصل في صيف عام 2014، معلنًا استعادة الخلافة الإسلامية.
كان الجبالي يشير بعبارة الخلافة السادسة، إلى أولى الخلفاء الراشدين بعد النبي محمد (أبو بكر، وعمر وعثمان وعلي)، بينما أضاف خليفة خامسًا هو عمر بن عبد العزيز من الأسرة الأموية. وقد أثار هذا التصريح فزع العلمانيين التونسيين الذين يناضلون من أجل إعادة بناء بلادهم بعد تخليص أنفسهم من الرئيس زين العابدين بن علي الذي حكم الدولة لفترة طويلة، ما دفع حزب التكتل الاشتراكي إلى القول: “نحن لا نقبل هذا التصريح. كنا نعتقد أننا سنبني جمهورية ثانية، وليس خلافة سادسة”2.
وإذا كانتِ الخلافة هي في الواقع ما كان يدور في خلد النهضة بالنسبة لتونس، فإنهم كانوا على موعد مع مفاجأة كبيرة هذا الأسبوع. فلقد أقال الرئيس قيس سعيّد الحكومة التي يقودها حزب النهضة وجمّد البرلمان، واضعًا نهاية لحقبة حركة النهضة في السياسة التونسية. ومُنع الزعيم التاريخي لحزب النهضة راشد الغنوشي، الذي كان يشغل منصب رئيس البرلمان حتى الأسبوع الماضي، من دخول مجلس النواب، ومنذ ذلك الحين، مُنع من السفر أيضًا. غير أن الخلافة لا تسقط بشكل عام من خلال الأوامر التنفيذية للمحامين الدستوريين الذين تحولوا إلى سياسيين مثل الرئيس سعيّد. والآن، يشتكي الإسلامويون من تعرضهم للظلم؛ في حين يبتهج العلمانيون.
لا يزال حزب النهضة، على الرغم من كل المحاولات الرامية إلى تحسين صورته، حركة إسلاموية مستوحاة من جماعة الإخوان المسلمين المصرية. وبعد خروجهم من العمل السري في عام 2011، حاولوا طمأنة الليبراليين بإعلان التزامهم بالحقوق المدنية والإصلاح والديمقراطية. وجد الغنوشي وأتباعه إلهامًا كبيرًا في حزب العدالة والتنمية التركي، الذي حاولوا استنساخه بالتفاصيل، معتبرين زعيم حزب العدالة والتنمية والرئيس التركي رجب طيب أردوغان قدوةً لهم. حتى أنه نُقل عن الغنوشي قوله: “في تركيا وتونس، كانت هناك نفس حركة المصالحة بين الإسلام والحداثة. نحن أحفاد هذه الحركة”3.
عملية تجميل حزب النهضة
تجدر الإشارة إلى أن تاريخ حركة النهضة في مقاومة حكم ابن علي، إلى جانب مؤهلاتها الإسلامية، أكسبتها أكثرية تُقدر بنحو 37% في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2011. وجاءت في المرتبة الثانية خلال انتخابات عام 2014، لكنها تمكنت بعد ذلك من استعادة اليد العليا في يناير 2016 بعد الانشقاق الذي اعترى منافسيها بسبب الانقسامات الداخلية.
وبعد خمسة أشهر، حاول الغنوشي إجراء عملية تجميل لحزب النهضة في المؤتمر العام العاشر للحزب في مايو 2016، قائلًا إنه على الرغم من أنه لا يزال ملتزمًا بالإسلام، فإن حزب النهضة يعمل على توسيع قاعدة الدعم السياسي، وتلطيف حدة خطابه، ووضعَ حدًّا للدعوة، ويجري إصلاحاتٍ داخلية. وأوضح ذلك في حديثٍ له مع صحيفة “لوموند” الفرنسية، حيث قال: “نحن ديموقراطيون مسلمون لم نعد ندعي الإسلام السياسي. لا نريد إمامًا أن يقود أو حتى أن يكون عضوًا في أي حزب سياسي”4.
الجدير بالذكر أن الغنوشي أدْلى بهذه التعليقات في وقتٍ كان فيه الإسلام السياسي في وضع سيئ وفي حالة دفاع عن النفس، وبدا أن التنازلات هي الشيء المنطقي الذي يجب القيام به. فقد أُزيح نظام الإخوان المسلمين بقيادة الرئيس المصري محمد مرسي في القاهرة، وترددت أصداء ذلك في جميع أنحاء العالم العربي، ما ثبَّط طموحات الجماعات المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين. ووفقًا لاستطلاع أجراه “المعهد الجمهوري الدولي”، الذي يتخذ من واشنطن مقرًا له، فإن ناخبي حزب النهضة الذين يؤيدون توسيع دور الإسلام في الحكومة قد انخفض بشكل كبير من 84% في عام 2014 إلى 62% في عام 52017. كان الغنوشي يأمل من خلال تجميل حزبه في توسيع قاعدة الدعم السياسي إلى ما هو أبعد من الدوائر المحافظة التقليدية لتشمل السياسيين المهنيين، والتكنوقراط، والمهنيين العاملين.
حِيَل مشابهة لجبهة النصرة وحماس
حضر الغنوشي مؤتمرًا بارزًا لجماعة الإخوان المسلمين في إسطنبول قبل أسابيع من انعقاد المؤتمر العاشر لحزب النهضة. لم يغيّر حزب النهضة اسمه، ولم يفترق عن جماعة الإخوان المسلمين. وعندما قدم الحزب الدستوري الحر مشروع قرار برلماني لتصنيف الإخوان كمنظمة إرهابية في تونس، أجهض حزب النهضة مشروع القانون6. وهكذا، بدا قرار تجميل صورة الحزب والنأي بنفسه عن الإخوان، وكأنه جهد منسق بعناية، نابع من البرجماتية السياسية، وليس من التحول الأيديولوجي.
وبعد شهرين، حاولت جماعة إسلامية متشددة أخرى القيام بحيلةٍ مماثلة في سوريا: فقد خرجت جبهة النصرة، الفرع الرسمي لتنظيم القاعدة في سوريا، ببيانٍ رسمي تعلن فيه تغيير اسمها إلى “جبهة فتح الشام” وقطع صلاتها رسميًا بـ “أي كيان خارجي آخر”، في إشارة ظاهريًا إلى تنظيم القاعدة، دون ادعاء قطع صلتها7. لقد أسقطت كلمة “النصرة” من اسمها، الذي أُخذ من عبارة في كتاب جهادي كلاسيكي بعنوان «الدعوة إلى المقاومة الإسلامية العالمية»، كتبه أبو مصعب السوري، أحد المساعدين والمقربين من أسامة بن لادن. وعلى غرار النهضة، كانت النصرة تفترق ظاهريًا عن منظمتها الأم سيئة السمعة في محاولة لجذب قاعدة دعم أوسع، وتصوير نفسها على أنها لاعب أكثر اعتدالًا، وبالتالي يكون مقبولًا، داخل المجتمع الإقليمي والدولي.
وفي أعقاب تلك التصريحات المتتابعة التي أدلى بها الغنوشي وزعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني، أصدرت حماس ميثاقها المُعدّل بعد عام واحد بالضبط، في مايو 2017، حيث خفّضت من الخطاب الإسلامي، وقبلت بحدود إسرائيل لعام 1967، ونأَت بنفسها عن جماعة الإخوان المسلمين8.
بغض النظر عن تغيير الاسم، استمرت الجماعات الثلاث في تونس وسوريا وغزة في العمل بنهجها المعتاد. وأول من أكد هذا في تونس كان المؤسس المشارك لحزب النهضة عبد الفتاح مورو، الذي ظهر على قناة “الشروق” التونسية في مايو 2016 قائلًا: “النهضة لم ولن تغير هويتها، وستلتزم بمرجعيتها واستراتيجيتها الإسلامية”9.
عندما اندلعت الأزمة الخليجية في عام 2017، ظهر قادة النهضة على حقيقتهم، ووقفوا خلف أمير قطر تميم بن حمد، رافضين ما وصفوها بأنها إملاءات من السعودية والإمارات العربية المتحدة على قطر لإغلاق مكاتب قناة الجزيرة، أو على أقل تقدير التوقف عن إعطاء وقت بث رئيس لقادة حماس، وطرد حماس من الدوحة. وعندما توفي الرئيس المصري السابق محمد مرسي في يونيو 2019، صلى عليه أعضاء حزب النهضة مباشرة أثناء انعقاد جلسة برلمانية في تونس العاصمة، وأشاد به الغنوشي خلال تغطية حيّة على قناة الجزيرة باعتباره “شهيدًا”10.
احتضان الجماعات الإرهابية
على الرغم من ادّعاء حزب النهضة أنه يرفض انتهاج العنف وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، فإنه كثيرًا ما انخرط مع أحزاب تفعل ذلك، مثل جماعة أنصار الشريعة في تونس، وهي إعادة تسمية لتنظيم القاعدة في شمال إفريقيا. وفي يناير 2012، التقى الغنوشي مع زعيم الجماعة سيف الله بن حسين (أبو عياض التونسي)، السلفي الجهادي، لمناقشة الاستراتيجية المتبادلة.
وبعد تسعة أشهر من الاجتماع، انتشر مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ واسع يُظهر الغنوشي وهو يعد استراتيجية مع قادة جماعة أنصار الشريعة11. وسُمع يقول: “يجب على الإسلاميين ملء الدولة بالجمعيات وإنشاء مدارس لتحفيظ القرآن في كل مكان”. ثم أضاف: “لا يزال العلمانيون يسيطرون على وسائل الإعلام والاقتصاد والإدارة. ولذلك، فإن السيطرة عليها تتطلب المزيدَ من الوقت. أقول لسلفيينا الشباب أن يتحلوا بالصبر. لماذا العجلة؟ خذوا وقتكم لتعزيز ما اكتسبتموه”.
في سبتمبر 2012، بعد شهرٍ من تسريب الفيديو، شنَّ متظاهرون من جماعة أنصار الشريعة بقيادة ابن حسين هجومًا على السفارة الأمريكية في تونس العاصمة، ما أسفر عن مقتل شخصين. ثم فرضت الولايات المتحدة عقوبات على ابن حسين لصلته بتنظيم القاعدة. وقد طرح كثيرون أسئلة حول ما ناقشه الغنوشي بالضبط مع جماعة أنصار الشريعة، قبل الهجوم. وتوجه الغنوشي إلى الخرطوم في مؤتمر إسلامي، يدًا بيد مع صديقيه خالد مشعل من حركة حماس، ومحمد بديع المرشد الأعلى لجماعة الإخوان المسلمين المصرية.
اغتيال شكري بلعيد
في 6 فبراير 2013، اتهم حزب النهضة بالتواطؤ في قتل المحامي التونسي البارز شكري بلعيد، وهو عضو في حزب الوطنيين الديمقراطيين المعارض. وكان بلعيد قد انتقد حزب النهضة وقيادته، قائلًا في الليلة السابقة لاغتياله: “كل من عارضوا حزب النهضة أصبحوا أهدافًا للعنف”12. وقالت زوجته إنها ستوجه اتهامات بالقتل ضد حزب النهضة والغنوشي، ووصفته بأنه مسؤول “شخصيًا” عن وفاة زوجها13. وكان حمادي الجبالي -الذي كان قد دعا سابقًا إلى الخلافة السادسة- يشغل منصب رئيس الوزراء في ذلك الوقت. ووصف عملية القتل بأنها “اغتيال للثورة التونسية”، في حين أشار إليها حزب النهضة بأنها “جريمة بشعة”14. وأحرق المتظاهرون الشباب الغاضبون مكاتب حزب النهضة في بلدتي ميزونة والكاف، واقتحموا أيضًا مبانيها في مدينة قفصة، التي تقع جنوب غرب تونس.
وختامًا، تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء الشباب هم أنفسهم الذين خرجوا إلى شوارع العاصمة التونسية في 26 يوليو 2021، احتفالًا بمرسوم الرئيس ضد حزب النهضة. وبغضِّ النظر عن الخلافات الدستورية، بالنسبة للمتظاهرين الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع في عام 2011، كان هذا بمثابة استعادة لثورتهم، وانتقامًا لدماء شكري بلعيد.
المراجع:
[1] Amara, Tarek. “Tunisia Islamist causes outcry with caliphate talk,” Reuters (November 15, 2011): https://www.reuters.com/article/tunisia-islam-caliphate-idAFL5E7MF3T620111115
[2] Amara, “Tunisia Islamist causes outcry with caliphate talk”.
[3] Lewis, Aiden. Profile: “Tunisia’s Ennahda Party” BBC (October 25, 2011): https://www.bbc.com/news/world-africa-15442859
[4] “Ennahda is ‘Leaving’ Political Islam” Wilson Center (May 20, 2016): https://www.wilsoncenter.org/article/ennahda-gives-political-islam
[5] Meddeb, Hamza. “Ennahda’s uneasy exist from political Islam,” Carnegie Middle East Center (September 2019): https://carnegieendowment.org/files/WP_Meddeb_Ennahda.pdf
[6] Zayat, Iman. “Tunisian party wants to classify Muslim Brotherhood as “terrorist organization” The Arab Weekly (June 8, 2020): https://thearabweekly.com/tunisian-party-wants-classify-muslim-brotherhood-terrorist-organisation
[7] Alami, Mona. “Jabhat al-Nusra’s rebranding is more than simple name change,” Al-Monitor (August 5, 2016): https://www.al-monitor.com/originals/2016/08/jabhat-al-nusra-sever-al-qaeda-focus-local-syria.html
[8] Wintour, Patrick. “Hamas presents new charter accepting a Palestine based on 1967 borders,” The Guardian (1 May 2017): https://www.theguardian.com/world/2017/may/01/hamas-new-charter-palestine-israel-1967-borders
[9] Marks, Monica & Ounissi. “Ennahda from Within: Islamists or Muslim Democrats?” Brookings Institute (March 23, 2016): https://www.brookings.edu/research/ennahda-from-within-islamists-or-muslim-democrats-a-conversation/
[10] Cherif, Youssef. “Ennahda and Mors’s Eulogy” Carnegie Endowment for International Peace (July 2, 2019): https://carnegieendowment.org/sada/79420
[11] Zelin, Aaron Y. “Tunisia: Uncovering Ansar al-Sharia,” The Washington Institute for Near East Policy (October 25, 2013): https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/tunisia-uncovering-ansar-al-sharia
[12] Morris, Loveday. “Uprising in Tunisia as regime critic is murdered” (February 6, 2013): https://www.independent.co.uk/news/world/africa/uprising-tunisia-regime-critic-murdered-8483975.html
[13] Morris, “Uprising in Tunisia as regime critic is murdered”.
[14] Marks, Monica & Fehim, Kareem. “Tunisia moves to control fallout after opposition figure is assassinated,” New York Times (February 6, 2013): https://www.nytimes.com/2013/02/07/world/africa/chokri-belaid-tunisian-opposition-figure-is-killed.html