المؤلف: لينا العليمي
دار النشر: بريت كوهلر
تاريخ النشر: 2019
عدد الصفحات: 260 صفحة
ماريا لوزانو أليا
تقدم لنا لينا العليمي، في باكورة إنتاجها، كتابًا بعنوان” التعاطف الرحيم لمكافحة للإرهاب: قوة الإندماج في التصدي للأصولية؛ يحوي مقاربةً اجتماعية عن ظاهرة الراديكالية، والتطرف العنيف، وأسبابه، والاستجابات التي تطورها القوى الغربية لمكافحة هذه الظاهرة.
لا يدّعي الكتاب أن يكون دليلًا احترافيًّا أو كتابًا مخصصًا بشكل حصري “للخبراء”. فمن خلال بنيته ومحتواه، والتطور المنطقي للنقاش والحجج الواردة فيه، نجد أن الكتاب مفيد لجميع المهتمين بهذا المجال، سواء كانوا متخصصين أو يرغبون في تحليل غير تقليدي للأوضاع الجيوسياسية في الشرق الأوسط.
وعلاوة على ذلك، يخاطب الكتاب كوكبةً متنوعة من القراء- القطاع الخاص، والحكومات، والسلطات المحلية، والأوساط الأكاديمية والمجتمع بوجه عام- الذين لهم مصلحة ودور في منع التطرف العنيف وتقوية النسيج الاجتماعي.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء؛ الأول منها يركز على استعراض تاريخي وسياسي شائق (غير تقليدي) للإسلام والشرق الأوسط. تستعرض المؤلفة تطور الإسلام عبر الزمن، وصعود الإسلام السياسي، مع الاستغلال السياسي للدين المرتبط بالتحديات المختلفة التي اضطر الإسلام لمواجهتها، سواء كانت النزعة الاستعمارية أو تفشي الفساد الحكومي والمحسوبية عقب رحيل القوى الاستعمارية.
ويسعى الجزء الثاني إلى تحديدِ دوافع التطرف العنيف والإرهاب بين الشباب، وبشكلٍ صريح، العناصر غير الأيديولوجية، وفهم الكيفية التي تُسهم بها البيئاتُ السياسيةُ والاجتماعيةُ المعقدة، في انتشار التطرف العنيف، الذي لا يقتصر على أي دين أو منطقه جغرافية أو فتره زمنية. وتساعدنا الأمثلة، التي تقدمها الكاتبة، على فهم كيف أن التطرف العنيف كان ردًّا من قبل المجتمعات وقادتها على المظالم المتصورة طوال التاريخ البشري.
وعلى وجه التحديد، تستعرض الكاتبةُ تحليلًا متعمقًا للعمليات الفردية والشخصية للغاية ودوافعها: لماذا يقرر بعض الأفراد، الذين يواجهون الظروف السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية نفسها، أن يتخذوا العنفَ سبيلًا لتحقيق أهدافهم، فيما يرفض البعض الآخر ذلك.
الجزء الثالث من الكتاب، يقيّم الروايات الحالية والبرامج التي طورتها الحكومات الغربية لمواجهة هذه الظاهرة، مع إيلاء اهتمام خاص بالأساليب الفاشلة، وأسباب هذا الفشل، ومواجهتها بمشروعات مبتكرة وناجحة، تركز على إدماج السكان المستهدفين، سواء كانت تهدف إلى منع التطرف العنيف (الأشخاص المعرضون لخطر التطرف) أو التصدي له (تخليصهم من نزعة التطرف، أو فك ارتباط أولئك الذين أصبحوا متورطين في التطرف).
واستنادًا إلى تحليلٍ مخالف؛ أي خارج التيار الرئيسي للفكر الغربي، تقيّم العليمي ببراعة الحقائق التاريخية الأخيرة التي تسببت في اندلاع أخطر الأزمات الجيوسياسية التي عصفت وما زالت تعصف بالشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم. وفي ظل وجود مساحة ورؤية بديلة، تتحدى العليمي سياسات مكافحة الإرهاب الغربية، وتسلط الضوء على الدوافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحقيقية الكامنة وراءها، والأهم من ذلك، تحذر بشجاعة من عواقب تلك السياسات على سكان المناطق المتضررة.
وإضافة إلى ذلك، تتصدى العليمي بقوة للتفسيرات المانويّة الخاصة بالدوافع التي تقود للتطرف العنيف، وتغوص عميقًا في العواقب الوخيمة التي ينتجها تبني فكر “هم مقابل نحن” في المجتمعات، مما يعزز الاستقطاب الاجتماعي ويقوض “المناطق الرمادية” الايجابية دائمًا.
كما يسعى الكتاب إلى معالجة مسألة محورية. إذ يقيّم الكتاب ويواجه العديد من المسارات البحثية المتعلقة بمختلف الدوافع المؤدية إلى التطرف العنيف والإرهاب، سواء كانت قضايا الهوية والرغبة في الانتماء إلى مجتمع محلي في حاله الشباب الغربي، أو القتال ضد الحكومات الفاسدة، والفكرة المتصورة عن المظالم التاريخية أو السياسية في العالم الإسلامي.
وبناء على هذه الفرضية، تتحدى العليمي ردود فعل القوى الغربية، فترى أن السياسات “الخشنة” في مكافحة الإرهاب تتسبب في آثار سيئة من حيث الاستقطاب الاجتماعي، وتعزيز فكرة “هم مقابل نحن” التي تغذي التطرف، متسائلة لماذا لا تتصدى جميع هذه السياسات المتعلقة بمكافحة الإرهاب إلى الدوافع الحقيقية للتطرف العنيف، وتركز بدلًا من ذلك على الاستجابة القائمة على الأساليب القسرية التي تؤجل، في أفضل الأحوال، التهديد الذي يشكله هذا الاتجاه على مجتمعاتنا.
ومن خلال هذا البحث الاجتماعي، تقدم الكاتبة نداء قويًّا لدعم ما تسمية “النهج الناعم” الذي يتجنب الأساليب القسرية لمكافحه الإرهاب. هذا المسار “الناعم” يتعامل مع الدين كجزء من الحل، وليس سببًا في المشكلة، ويتطلع إلى الدمج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، باعتباره السبيل المستدام لمكافحة التطرف على المدى الطويل.
يستحق الكتاب التقدير أيضًا؛ لأنه عرض بشكل مفيد الدراسات والبحوث الرئيسية، في مجال التطرف العنيف، وأسبابه ودوافعه، بحيث يمكن مقارنة جميع حجج المؤلف وتوصياتها بالأدبيات الأكاديمية.
وأخيرًا، ربما في الجزء الأكثر تشويقًا من الكتاب، تقدم المؤلفة تقييمًا لبرامج الوقاية وإعادة التأهيل الرئيسة في مجال التطرف العنيف -القائمة على الدمج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي- التي أثبتت فعاليتها في مختلف أنحاء العالم.
تسلط المؤلفة الضوءَ على “شبكة منع العنف” في ألمانيا، التي يقودها جودي كورن. وتشير إلى أن شبكة كورن تعاملت مع أكثر من 500 حالة، حيث بلغت معدلات العودة إلى الإجرام 30%، مقابل 80% لجميع المجرمين القُصّر في ألمانيا. أحد الأمثلة الرائعة الأخرى من أوروبا هي منظمة (EXIT) في السويد، حيث يقدم روبرت أوريل تدخلاتٍ مخصصة للشباب السويدي، وينقل المهارات المستفادة من مكافحة النازية الجديدة إلى المتورطين مع الجماعات الإسلامية العنيفة.
وعلى الجانب الآخر من العالم، تقوم المنظمة الأمريكية غير الربحية “البحث عن أرض مشتركة” (Search for Common Ground) بتنفيذ مشروع مبتكر وناجح جدًا في فلسطين يهدف إلى تعزيز المشاركة السياسية بين الشباب. قدمت المنظمة برنامجًا ضمن ما يُعرف باسم “تلفزيون الواقع”، يحمل اسم “الرئيس”، بمشاركة 1,200 متنافس، ووصل إلى 40% من الفلسطينيين، حيث طُلب من المتسابقين تنظيم تجمعاتٍ انتخابية، ونقد الوزراء الحاليين، وإعداد برامجهم السياسية، حول قضايا واقعية من الحياة.
لا تكتفي العليمي بهذا، بل تقدم المزيد من الأمثلة الملهمة. اضطلع كريستيان سيتو سيرهيجيري، صحفي وناشط سلام، من جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومؤسس منصة إعلامية تعرف باسم (Peacemaker 360)، بِتَحَدٍ هائل يتمثل في العمل على انتشال وطنه من الحرب الأهلية التي تسببت في انهيار معظم أشكال النظام.
بعد ذلك، تقدم لنا مشروع إشراك الشباب في قيرغيزستان، مع منصة يطلق عليها اسم “الشباب كوكلاء للسلام والاستقرار” (Youth as Agents of Peace and Stability)، يهدف إلى الحد من العوامل التي تقود إلى التطرف، وتمكين الشباب من القيام بدور نشط في مجتمع قيرغيزستان، وزيادة التعاون بين الشباب والكبار في صنع القرار المحلي.
علاوة على ذلك، تولي العليمي اهتمامًا بـ “الأصوات الموثوقة”، مثل العراقية فاطمة البهادلي، أم رأت ابنها ينضم إلى تنظيم “داعش”، فما كان منها إلا أن أسست مؤسسة “الفردوس”. تُعلم الشباب أن الله خلقهم ليس للقتل أو الموت بل لتكريس حياتهم للعبادة، والعمل، وخدمة المجتمع. سارت مشيًا على الأقدام، من مخيم إلى مخيم، في محافظة صلاح الدين، وسط العراق، وتحدثت إلى أكثر من 3500 شاب في محاولة لإعادة دمجهم وإشراكهم. وعن هذا تقول فاطمة: “أقول لهم إن الجهاد ليس سفك الدماء في الشوارع، بل التبرع بالدم في المستشفيات”.
وتختم العليمي كتابها بتقييم مالي لمبادرات بناء السلام هذه، مقابل التكاليف و(عدم) كفاءة “النهج الخشن” المُتبع فيما يسمى “الحرب العالمية على الإرهاب”. ففي الوقت الذي تتاح فيه مبالغ هائلة من الأموال للتسلح، والجوانب الأخرى لأساليب مكافحة الإرهاب “الخشنة”، خلال الحرب العالمية على الإرهاب، دون إخضاعها لرقابةٍ كافية، تخضع الأساليب “الأكثر نعومة” للتشكيك باستمرار وعمليات التقييم التدخلية، ناهيك عن المطالبة بأن تثبت فعاليتها في المدى القصير.
لقد كان بالإمكان استغلال الأموال، التي تم استثمارها في الأسلحة، في تمويل آلاف مشروعات الوقاية والدمج، وضمان استدامتها المالية والفنية على المدى الطويل، ومن ثم تحقيق المزيد من النجاحات في مواجهة الدوافع المؤدية إلى التطرف العنيف.
ومن ثمّ، تقترح الكاتبة تطوير نموذج فكريٍّ جديد لمواجهة التطرف العنيف، ينطوي على تغيير جذري في طريقة فهم الحكومات والمنظمات الدولية، لمنع التطرف وأساليب مواجهته. وبطبيعة الحال، سيتطلب هذا التحول الفكري تحولًا في تخصيص الأموال.
خلاصة القول، تدعونا لينا العليمي، المبتكرة الاجتماعية الرائدة في العالم العربي، التي تتمتع بسجل مهني باهر في العديد من مراكز البحوث حول العالم، أن نفتح أعينَنا وعقولَنا وقلوبَنا لفهم ما يحدثُ بالفعل مع شبابنا، وأن ندرك أن منعَ التطرفِ العنيف معركةً شاقة، يستلزم خوضُها مراعاةَ الشفقة والدمج.