د. سامي مبيض
قبل خمسين عامًا، تعقّب لاجئٌ فلسطيني من القدس، يبلغ من العمر 25 عامًا، يُدعى سرحان سرحان، المرشَّحَ الرئاسيَ الأمريكي روبرت كينيدي، وأطلق عليه الرصاص أربع مراتٍ من مسافةٍ قريبة في مطبخ فندق السفير في لوس أنجلوس.
كانت الساعة تشير إلى الخامسة عشرة دقيقة بعد منتصف الليل في 5 يونيو 1968، عندما أطلق سرحان سرحان الرصاص على السيناتور كينيدي، انتقامًا للاحتلال الإسرائيلي للقدس الذي وقع قبل عامٍ واحد بالضبط، خلال حرب الأيام الستة عام 1967.
كان كينيدي مرشحًا للانتخابات الرئاسية في نوفمبر 1968 وشغل سابقًا منصب المدعي العام للولايات المتحدة خلال الفترة من 1961-1964. هزّت تلك الجريمة صلب المجتمع الأمريكي، بعد خمس سنواتٍ فقط من اغتيال شقيقه الرئيس جون كينيدي في دالاس في نوفمبر 1963، وبعد شهرين من مقتل مارتن لوثر كينج بالرصاص في مدينة ممفيس بولاية تينيسي في أبريل 1968.
كان سرحان سرحان يعتقد أنه إذا ما انتخب كينيدي رئيسًا من الحزب الديمقراطي، فإنه سيقف مع إسرائيل ضد الفلسطينيين. وقد حُكم عليه بالإعدام في غرفة الغاز، ولكن خُفف الحكم الصادر بحقه إلى السجن مدى الحياة بعد أن حُظرت عقوبة الإعدام في ولاية كاليفورنيا في عام 1972.
في 27 أغسطس 2021، عقد مجلس الولاية جلسةَ استماعٍ للإفراج المشروط لصالح سرحان، وأوصت بالإفراج عنه نظرًا لندمه على ما فعله، ولسجله النظيف في السجن. ووفقًا لمحاميته أنجيلا بيري، كان سرحان في عزِّ الشباب عندما ارتكب جريمته، وكانت هناك فرصة غير محتملة لمعاودة الجريمة، إذا أُطلق سراحُهُ من السجن.
معارضة الإفراج
قرار مجلس الولاية بانتظار القول الفصل من حاكم كاليفورنيا جافين نيوسوم الذي ألمح في 15 سبتمبر إلى أنه قد لا يوقّع على الإفراج عن سرحان مدعيًا أنه يعتبر روبرت كينيدي، المكنى “بوبي”، أحد أبطاله. ويعارض ستة من أبناء كينيدي التسعة الباقين على قيد الحياة إطلاق سراح سرحان، وكذلك أرملته إيثيل كينيدي البالغة من العمر 96 عامًا.
وقد أصدر أبناء كيندي بيانًا عامًا قالوا فيه: “كأبناء لروبرت كينيدي، نحن نشعر بالصدمة لصدور توصية بالإفراج المشروط عن الرجل الذي قتل والدنا”. وأضافوا: “نحن نعارض بشدة إطلاق سراح سرحان سرحان وصدمنا بحكمٍ يتجاهل، في اعتقادنا، معايير إطلاق سراح قاتل مقر بذنب من الدرجة الأولى في ولاية كاليفورنيا”.
بعد وقتٍ قصير من جلسة الاستماع للإفراج المشروط الشهر الماضي، كتبت روري، ابنة كينيدي الصغرى، مقال رأي في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان “الرجل الذي قتل أبي لا يستحق الإفراج المشروط“. يُذكر أن روري ولدت بعد اغتيال والدها في عام 1968.
من ناحيةٍ أخرى، يؤيد ثلاثة من أطفال كينيدي إطلاق سراح سرحان: دوجلاس (54 عامًا)، صحفي، وروبرت كينيدي الابن (67 عامًا)، محام، وكاثلين (70 عامًا)، محامية شغلت منصب نائب حاكم ولاية ماريلاند في الفترة ما بين 1995-2003. وكذلك بول شراد، صديق مقرّب من آل كينيدي، أصيب مع كينيدي في فندق السفير في عام 1968، وهو الآن في منتصف التسعينيات من عمره، وقد أيّد منذ فترةٍ طويلة نظريةً تقول إن مسلحًا ثانيًا كان في الغرفة، ولم يتم التعرف عليه قط.
وقال دوجلاس كينيدي للجنة المؤلفة من شخصين الشهر الماضي: “أشعر بالارتباك لمجرد تمكني من رؤية السيد سرحان وجهًا لوجه. لقد عشتُ حياتي في خوفٍ منه، ومن اسمه بطريقةٍ أو بأخرى، وأنا ممتن اليوم لرؤيته كإنسان يستحق الرحمة والحب”.
في الوقت نفسه، زار روبرت كينيدي الابن سرحان في السجن في عام 2017، وقال: “كنتُ فضوليًا ومنزعجًا مما رأيته في الأدلة. لقد انزعجتُ من أن الشخص الخطأ قد يكون أدين بقتل والدي. والدي كان كبير مسؤولي إنفاذ القانون في هذه الدولة. أعتقد أنه كان سيزعجه لو وُضع شخص ما في السجن بسبب جرمٍ لم يرتكبه”.
الترحيل إلى الأردن
في حال الإفراج عن سرحان سرحان، يتعين ترحيله فورًا إلى الأردن، الدولة التي جاء منها في عام 1956. تجدر الإشارة إلى أنه عند ارتكاب الجريمة في عام 1968، لم يكن سرحان مؤهلًا للحصول على الـ “جرين كارد” الأمريكية، ما جعله غير مؤهل للبقاء في الولايات المتحدة. لكن آخر ما يحتاجه الأردن هو مجرم مدان على أراضيه، الذي سيصبح نقطة جذب فورية للصحفيين المدعومين من إيران من “محور المقاومة” المناهض للولايات المتحدة. كما سيرحب المجتمع الفلسطيني الكبير في الأردن بوجود سرحان، الذي يتعاطف العديد من أعضائه مع حماس؛ الجماعة التابعة للإخوان المسلمين، التي تحكم غزة.
ومن المؤكد أن الملك عبد الله الثاني سيرفض عودة سرحان إلى الأردن، وكذلك الرئيس الفلسطيني محمود عباس. والبديل عن ذلك، يمكن لسرحان إذا أُطلق سراحه، أن يطلب العودة إلى مدينته القدس التي تسيطر عليها إسرائيل الآن، لكن السلطات في تل أبيب لن تسمح بذلك أبدًا.
إذا أطلق سراحه وعاد إلى العالم العربي، فإن سرحان سرحان -البالغ من العمر الآن 77 عامًا- سيجد صعوبة في التعرف على المدن التي كان يعرفها عندما كان مراهقًا. الجدير بالذكر أن الاهتمام بالقضية الفلسطينية، التي كانت تحتل مكانة عزيزة في قلوب أبناء جيله من العرب، قد تراجع الآن، وتضاءل بسبب الحروب في سوريا والعراق وليبيا واليمن، وعدم كفاءة القادة الفلسطينيين، منذ وفاة ياسر عرفات في عام 2004.
كما أن القضية قد شوهت، لدرجة يصعب التعرف عليها في كثيرٍ من الأحيان، بعدما كانت قضية علمانية ذات يوم، وذلك بعد اختطافها، أولًا من قبل جماعة الإخوان المسلمين، ثم من قبل فرعها الإرهابي، حماس. كان المناضلون من أجل الحرية في الخمسينيات والستينيات يُعرفون باسم الفدائيين، وهو مصطلح علماني صاغته “منظمة التحرير الفلسطينية” العلمانية بقيادة عرفات. وكان الفدائيون “يضحون بأنفسهم” من أجل القضية العربية، ولم ينحصروا فقط في المسلمين السنّة ذوي الأجندة الجهادية.
الفدائيون المسيحيون
لقد كان العديدُ منهم مسيحيين أيضًا، وكانوا يشعرون بالإهانة إذا ما حُسبوا على طائفتهم أو دينهم، ويصرون على أنهم “عرب”. وكانت المساجد والكتب الدينية غير شائعة في أدبيات الفدائيين وأيقوناتهم. أحد أولئك الفدائيين الذين ذاع صيتهم عندما كان سرحان مراهقًا هو جول جمال؛ ضابط مسيحي في البحرية السورية فجّر نفسه في سفينة حربية فرنسية خلال حرب قناة السويس عام 1956.
ضحى جمال بنفسه من أجل قضية عربية وليس من أجل قضية إسلامية، وتوفي على الأراضي المصرية، وليس في وطنه سوريا. وكذلك سناء محيدلي؛ مسيحية لبنانية تبلغ من العمر 16 عامًا فجّرت نفسها أمام قافلة إسرائيلية في عام 1985، ما أسفر عن مقتل ثلاثة إسرائيليين.
خلال السنوات التي سبقت اغتيال روبرت كينيدي، ذاع صيتُ ثلاثةِ مسيحيين فلسطينيين في جميع أنحاء العالم العربي، ويبدو أنهم ألهموا سرحان سرحان، وهؤلاء هم وديع حداد وجورج حبش، مؤسسا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونايف حواتمة، مؤسس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وكان جميعهم مقربين، إن لم يكونوا عملاءَ، للاتحاد السوفييتي. جنّد هؤلاء الرجال مئات المسيحيين الفلسطينيين في صفوف جماعاتهم المسلحة، وربما كان لأحدهم يد في اغتيال كينيدي.
غَيْرَة حماس
أولئك الذين عاشوا ليحكوا القصة إما قتلوا أو همَّشتهم حماس التي يصر قادتها على أن الأفراد التابعين للجماعة الإرهابية الإسلامية هم وحدهم الذين يستحقون أن يُذكروا في كتب التاريخ الفلسطينية. ولا تشير حماس، في الكتب المدرسية التي تنشرها وتشرف عليها في غزة، إلى الفلسطينيين المسيحيين الذين قاتلوا ضد إسرائيل، وتصر على أن المقاتلين الحقيقيين الوحيدين هم أولئك الذين عملوا مع مؤسسِ حماس؛ الشيخ أحمد ياسين.
وهذا يضيفُ طرفًا آخر يريد أن يبقى سرحان سرحان رهن الحبس: حماس، والإخوان المسلمين. وحقيقة أنه على قيد الحياة، وربما يعود إلى المنطقة، تُذكّر العالم بأن هناك مسيحيين؛ مثل سرحان في ما يسمَّى بـ “المقاومة”، أولئك الذين نفَّذوا عملياتٍ ضد إسرائيل وأعدائهم قبل وقتٍ طويل من نشأة حماس.
وفي حين أن معظم العالم يعتبر سرحان سرحان مجرمًا، يبدو أن حماس تحسده على جريمةٍ كانت تودُّ لو أنها ارتكبتها، ومن ثم تنسب الفضل لنفسها.