نشر “المركز الدولي لدراسة التطرف” التابع لجامعة “كينجز كوليدج” في لندن، قبل بضعة أيام، تحليلًا معمقًا سلّط فيه الضوء على برنامج إعادة تأهيل المتطرفين الذي نُفِّذ في سنغافورة على مدار السبع عشرة عامًا الماضية، بعنوان “إعادة تأهيل المتطرفين في سنغافورة: الماضي والحاضر والمستقبل”. مؤلف التقرير هو الدكتور شاشي جاياكومار، رئيس “مركز التميز للأمن القومي”، والمنسق التنفيذي لبرنامج “قضايا المستقبل والتكنولوجيا” في كلية إس. راجاراتنام للدراسات الدولية في سنغافورة.
عادة ما يكون أولئك الذين يدرسون مكافحة التطرف وإعادة تأهيل المتطرفين على درايةٍ بما تم إنجازه في سنغافورة، حيث تعد هذه البلد حالة جديرة بالدراسة والاهتمام وتزخر بأكثر من عنصر إيجابي في هذا المجال. ويمثل أحدث تقرير للمركز الدولي لدراسة التطرف واحدًا من أكثر التقييمات تفصيلًا للبرنامج السنغافوري، الذي تم تحليله بشكل مفصل وواضح.
السياق
تشير بعض التقديرات إلى أن سنغافورة الدولة المدينة المتعددة الثقافات، التي تصل مساحتها قرابة 700 كيلومتر مربع تقريبًا، تضم أكثر سكان العالم تنوعًا على وجه الأرض. من الأديان الرئيسة الممثلة هناك المسيحية (18.8%)، والبوذية/الطاوية (43.2%)، والإسلام (14%)، والهندوسية (5%). في الواقع، لم تشهد الدولة أيَّ هجومٍ إرهابي من قبل تنظيم القاعدة أو من داعش. غير أن قربها من إندونيسيا أبقى مستوى التأهب فيها مرتفعًا جدًّا دومًا.
ذلك أن إندونيسيا استهدفت مرارًا من قِبَل “الجماعة الإسلامية” المرتبطة بتنظيم القاعدة وغيرها من الجماعات المتطرفة العنيفة. وكان الحادث الإرهابي الأكثر دموية في الدولة هو هجمات بالي التي وقعت في أكتوبر من عام 2002 وأسفرت عن مصرع 202 شخص.
وهكذا، قاد قرب سنغافورة من الجار الأقل أمنًا، وتزايد درجة التطرف المحلي فيها، إلى العمل على مكافحة التطرف بقوة وتبني خطط طويلة الأمد.
النزعة الإسلاموية في الشرق الأقصى
الجدير بالذكر أن “الجماعة الإسلامية” في إندونيسيا ولدت من رحم شبكة “دار الإسلام”، التي ظهرت في إندونيسيا في الأربعينيات كحركة إسلامية مناهضة للاستعمار ضد الحكم الهولندي. ولكن بعد الاستقلال، تحول تركيز شبكة دار الإسلام إلى “العدو الداخلي”، بعد دورة مماثلة ظهرت في العديد من الدول الأخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا. وركزت الحركة نضالها ضد الحكومة الإندونيسية غير الثيوقراطية، التي اتهمتها شبكة دار الإسلام بأنها مناهضة للدين الإسلامي، وصوّرت نفسها على أنها الطليعة القادرة على تمهيد الطريق لتطبيق الشريعة الإسلامية.
وكما يحدث في كثيرٍ من الأحيان داخل الوسط الجهادي، كانت هناك انقسامات بين الفصائل. تأسستِ الجماعة الإسلامية في يناير 1993 على يد عضو كبير في شبكة دار الإسلام يُدعى عبد الله سونغكار، الذي انشق عن بقية قيادة الشبكة. وبحلول نهاية التسعينيات، كان للجماعة الإسلامية ثلاث مجموعات إقليمية تابعة لها، تشمل إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة.
ويُذكّر الدكتور جاياكومار القراء بأن خلية الجماعة الإسلامية في سنغافورة قد بدأت، وظلت حتى عام 1999، بقيادة إبراهيم مايدين؛ واعظ ديني سنغافوري علَّم نفسه بنفسه، وكان لديه خبرة سابقة في أفغانستان، حيث اختلط مع المجاهدين من بلدان مختلفة.
إعادة تأهيل المتطرفين في سنغافورة
من بين مختلفِ تجارب إعادة تأهيل المتطرفين التي أجريت في جميع أنحاء العالم، تبرز سنغافورة بشكل واضح بفضل حقيقة أن الحكومة أثبتت أنها بعيدة النظر في النهج الذي اتبعته مقارنة بما حدث في دول أخرى.
قررتِ السلطات السنغافورية في بداية القرن الحادي والعشرين دعوة كبار علماء الإسلام من المؤسسات المحترمة داخل المجتمع المحلي لإجراء مقابلات مع المحتجزين. وتمكن صناع السياسات من التصرف بسرعة كبيرة، واختاروا نهجًا يلعب فيه الدين دورًا رئيسًا، وأظهروا الاحترام للطائفة المسلمة الكبيرة، التي كان يغلب عليها الطابع السلمي.
وقد أُسندت إلى علماء الدين المهمة الأساسية المتمثلة في تقييم إيديولوجية السجناء ومعتقداتهم، وأظهرت الاتصالات الأولية التي أجراها كبار رجال الدين مع معتقلي الجماعة الإسلامية أن المحتجزين لديهم نظرة عتيقة بشكل ملحوظ عن الإسلام وبعض مبادئه الرئيسة، فضلًا عن نظرة عالمية تغلب عليها النزعة الإقصائية.
وكانت هذه هي المرحلة الأولية من العملية، التي قادت إلى إنشاء “فريق إعادة التأهيل الديني” في عام 2003. وكان لدى الفريق أحد عشر عضوًا وقت إنشائه في أبريل 2003، ووصل هذا العدد إلى ستة وأربعين بحلول عام 2019. وقد أجرى الفريق منذ تشكيله أكثر من 1,500 جلسة مشورة للمحتجزين وأسرهم.
مواكبة التطور
مع مرور السنوات، وبما أن الاستراتيجيات والتكتيكات والروايات الجهادية تطورت على نطاق واسع في اتجاهات متعددة، كان لا بُدَّ من أن تتطور برامج إعادة تأهيل المتطرفين أيضًا من أجل التعامل مع الاتجاهات الجديدة، ومع القضايا التي لم يسبق لها مثيل من حيث النوع و/أو الكم، مثل تطرف الأفراد على الإنترنت الذين لا تربطهم علاقات رسمية أو قوية مع الجماعات الجهادية المنظمة.
لهذه الأسباب، راجع فريق إعادة التأهيل الديني أسسه وأدلته الإرشادية مرات عدة، وكان آخرها في عام 2015. ونتيجة لذلك، تم التركيز على شبكة الإنترنت في وقتٍ مبكرٍ واستمر هذا التوجه في التصاعد. والآن يتمتع فريق إعادة التأهيل الديني بحضورٍ قوي على فيسبوك ويوتيوب. وعلى غرار البرامج المصوغة مثل البرنامج السعودي، فإن هدف فريق إعادة التأهيل الديني هو فهم عقلية المحتجزين، وتقديم المشورة لهم، والتأثير، حيثما أمكن، على عقلياتهم بهدف جعلهم مرشحين للإفراج عنهم وإعادة دمجهم في المجتمع.
وإذا كان للدين والتوعية العقائدية دورٌ رئيس، فإن سنغافورة لم تُهمل المكونات النفسية في عمليات التطرف الجارية من قبل الجماعات الإسلامية وعمليات مكافحة التطرف التي تقوم بها السلطات. وأجرى علماء النفس مقابلات مع المحتجزين لمعرفة سبب ارتكاب رجال عاديين، ليس لهم ماض إجرامي على ما يبدو، أعمال عنف باسم الدين. وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، كانت أنشطة مكافحة التطرف العنيف والأفكار التي تحظى الآن بإجماع عالمي بعيدة عن الفهم والإتقان على نطاقٍ واسع، وهنا تتجلى النظرة السنغافورية بعيدة المدى.
يشير مؤلف التقرير إلى أن الدراسات الاستقصائية النفسية التي أجريت بعد إلقاء القبض على المتطرفين تشير إلى وجود “امتثال عال، وإصرار ضعيف، وانخفاض التشكيك في القيم الدينية، وارتفاع مستويات الشعور بالذنب والوحدة”. وخلُص التقييم إلى أنه كان لدى العديد من المحتجزين “ميلٌ مسبقٌ من الناحية النفسية للتلقين والخضوع لسيطرة قادة الجماعة الإسلامية، وكانوا بحاجة إلى شعور بالانتماء دون ارتباط وثيق”. ومن المثير للاهتمام أن علماء النفس حددوا عددًا من التحولات الإيجابية التي حدثت في كثير من الحالات أثناء إعادة التأهيل، نوجزها فيما يلي:
1) إعادة التقييم الذاتي، بما في ذلك قبول أنهم كانوا مخطئين فيما اعتقدوا وفعلوا.
2) إعادة تقييم البيئية المحيطة: يدركون أنهم كانوا مخطئين في افتراض أن أعمالهم كانت مدعومة من المجتمع الإسلامي.
3) تشكيل علاقات علاجية.
4) الوعي بمسار التطرف: قبول مساره وفهمه وكيفية تعرضهم للتطرف.
5) التصحيح الأيديولوجي: إدراك أنهم كانوا يسيئون تفسير المفاهيم الرئيسة في عقيدتهم.
6) إعادة الهيكلة المعرفية: تطوير المهارات العقلية التي تساعدهم على تجنب مجرد قبول المعلومات التي تؤكد تحيزاتهم.
7) إدارة العاطفة وتطوير النظرة الموضوعية للأمور.
8) الالتزام الفردي: الالتزام بعدم الانتكاس في النشاط الإرهابي من خلال اتخاذ القرارات وخطط ما بعد الإفراج لإظهار عزيمتهم.
وإضافة إلى هذه الجهود التي تبُذل مع المحتجز نفسه، كانت هناك جهود مهمة في إعادة الإدماج الاجتماعي لأسر المحتجزين. وكان من أبرزها الحالة العقلية لزوجة المحتجزين وأطفالهم، واحتياجاتهم العاجلة، ودورهم في عملية إعادة التأهيل.
وتتمثل الأولوية في التأكد من أن التطرف والتجنيد لا يصبحان مشكلة عبر الأجيال، وأن أفراد الأسرة يتلقون، عند الاقتضاء، مشورة متخصصة. وفي الواقع، كانت هناك حالات لمحتجزين حاولوا تلقين زوجاتهم وأطفالهم الفكر المتطرف. وفي بعض هذه الحالات، تمت الاستعانة بواعظات لتقديم المشورة لزوجات المحتجزين.
وفيما يتعلق بالرعاية اللاحقة للإفراج عنهم، يُكلَّف أيضًا مسؤول الحالة بمتابعة المحتجز السابق لضمان الامتثال لشروط الإفراج. ويتابع هذا المسؤول استمرار المشورة الدينية والمحاضرات الدينية، علاوة على أنه يساعد المحتجز في الحصول على عمل.
الخلاصة
وختامًا، شملت جهود الوقاية الأوسع نطاقًا في سنغافورة اتخاذ خطواتٍ لتثقيف المجتمع وتعزيز قيمة التسامح وفوائد العيش في مجتمع متعدد الثقافات. علاوة على ذلك، يضطلع فريق إعادة التأهيل الديني ومستشاريه بجهودٍ جوهرية تهدف إلى تعزيز مفهوم الوسطية الذي يحثّ عليه القرآن الكريم.