د. ماتيو جيمولو*
منذ لحظة انتشار صور موظفة الإغاثة الإيطالية سيلفيا رومانو وهي تهبط في مطار شيامبينو في روما في 10 مايو المضي في جميع أنحاء العالم، أصبح اعتناقها الإسلام موضوعًا لمناقشات مثيرة للجدل في العديد من وسائل الإعلام. وقد نفت رومانو الشائعات حول إجبارها على الزواج من أحد خاطفيها. ومنذ اللحظة التي خلعت فيها قناعها الطبي أمام الكاميرات، اهتمت تحليلات مختلفة بنتائج الفحص الدقيق لتعبيرات وجهها ولغة جسدها، وقُدِّمت باعتبارها دليلًا على وقوعها ضحية لمتلازمة ستوكهولم. ونظرًا لتلقيها سيلًا من رسائل التهديد، تقوم الشرطة حاليًا بحراسة الشارع الذي تعيش فيه في ميلانو.
يرى البعض أن رومانو قد تحولت من ضحية للتعذيب الجسدي والنفسي على يد تنظيم جهادي أجنبي، إلى ضحية للإهانة والهجوم على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل اليمين المتطرف. وبعبارة صريحة، كان استقبال عودتها إلى أرض الوطن شيئًا أقل ما يُقال عنه إنه بشع. ذلك أن عدم وجود شعور مشترك بالتضامن- إلى جانب الاهتمام المرضي بحياتها الخاصة- قد شوّه قصة إطلاق سراحها عبر إطلاق شائعات غير ضرورية ومتعصبة.
ومع ذلك، وبصرف النظر عن المعاملة المشينة والكارهة للنساء التي تلقتها، لا يزال هناك عدد من الأسئلة المشروعة حول عملية الإنقاذ والخاطفين دونما إجابات شافية: هل دفعت الحكومة الإيطالية فدية للإفراج عن رومانو؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو الدور الدبلوماسي (أو غيره) الذي لعبته دول مثل تركيا وقطر في مثل هذه العملية؟ وهل ينبغي تحليل اختطاف رومانو على أنه حادثة إرهابية معزولة أم أن اختطافها كان جزءًا من استراتيجية ابتزاز راسخة تنفذها الجماعات الجهادية بهدف تعزيز قوتها المحلية وتسليط أضواء وسائل الإعلام الدولية عليها؟
اختطاف رومانو
للإجابة عن الأسئلة السابقة، علينا أولًا أن ننظر إلى الحقائق الثابتة في هذه القضية. فمن المرجح أن تكون رومانو قد اختطفت من قبل مجرمين كينيين عاديين لأغراض الابتزاز. والجدير بالذكر أنها قد أُسرت من منزلها في قرية تشاكاما الريفية الصغيرة (كينيا)، وأُجبرت على السير في رحلة استمرت نحو أربعة أسابيع سيرًا على الأقدام لمعظم الوقت، وبيعت فيما بعد إلى مقاتلي حركة الشباب. وبمجرد وصولها إلى الصومال، ظلت رهينة لنحو 18 شهرًا انتقلت خلالها ست مرات من مكان لآخر. وأثناء أسرها مرضت وسلمها خاطفوها نسخة من القرآن وبدأت تقرأه كل يوم تقريبًا. وعندما أُطلق سراحها في منتصف شهر مايو، أعلنت اعتناقها الإسلام.
حركة الشباب: جماعة متطرفة عنيفة
حركة الشباب هي جماعة جهادية مقرها شرق أفريقيا. ولدت الحركة من رحم الجناح المسلح لما يعرف باسم “اتحاد المحاكم الإسلامية” في عام 2006، وبدأت في السيطرة على أجزاء كبيرة من جنوب الصومال، بما في ذلك العاصمة مقديشو. ثم انقسمت إلى عدد من الفصائل الأصغر حجمًا بعد هزيمتها على يد الحكومة الاتحادية الانتقالية. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت واحدة من أكثر التنظيمات الإرهابية نفوذًا ووضوحًا في القرن الأفريقي، بفضل تحالفها مع الجماعات الأصولية المجاورة مثل تنظيمي القاعدة وبوكو حرام.
ورغم أن حجم حركة الشباب ونفوذها قد تقلصا مع توغل الجيش الكيني، ما تزال الحركة تسيطر على مناطق من الصومال، وشنت هجمات ضد القوات الغربية والمدنيين في المنطقة. وفي الهجوم الأكثر شناعة، اقتحمت حركة الشباب جامعة غاريسا في كينيا في 2 أبريل 2015، ما أسفر عن مقتل 148 شخصًا وإصابة 79 آخرين. كما تعمل الجماعة الجهادية بشكل وثيق مع العصابات الإجرامية والقراصنة، وجماعات تهريب الأموال والأسلحة والمخدرات والاتجار بالعاج وابتزاز المنظمات غير الحكومية وتجنيد المقاتلين وإفساد المسؤولين الحكوميين، وبالطبع الاختطاف.
علاوة على ذلك، تفرض حركة الشباب تفسيرها المتطرف للشريعة الإسلامية، وتدعي رغبتها في إقامة دولة إسلامية في الصومال والمناطق المجاورة، لكن وفقًا لتفسيرها المتشدد للإسلام. وفي هذا الصدد، كشف تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش أعد خلال عام 2009 (العام الذي كانت فيه حركة الشباب في ذروة قوتها، وتسيطر على أكثر من 80% من جنوب الصومال) عن شكاوى من عشرات الصوماليين الذين قالوا إنهم تعرضوا للضرب والجلد والسجن لقيامهم بسلوكيات تعتبرها الحركة محرمة، مثل الاستماع إلى الموسيقى، ولعب طاولة الزهر، وارتداء ملابس “غير إسلامية”، وعدم احترام الفصل بين الرجال والنساء. ويمكن أن يؤدي الجلوس في الخارج مع أحد الجيران الذكور (كما أفادت امرأة تبلغ من العمر تسعة عشر عامًا من كيسمايو) إلى سجن الشخص لسنوات، بينما قد يؤدي رفض النساء ارتداء الجلباب الذي يغطي كامل الجسم (كما تشهد بذلك امرأة من مقديشو) إلى حبسها في حاوية شحن لأسابيع. ويمكن خلع الأسنان الذهبية والفضية بالقوة من الأشخاص الذين زرعوها في فمهم بأدوات غير معقمة كعقاب لهم، على اعتبار أن ذلك شكل من أشكال “الخيلاء”. أما أولئك الذين يأتون بأفعال جنسية مثلية فيمكن أن يرجموا حتى الموت. وهنا يبرز السؤال: كيف يمكن لمثل هذه البيئة الأصولية والعنيفة أن تؤدي إلى تحول طوعي إلى الإسلام؟
سجل حافل بالخطف من أجل الفدية
كما هو الحال مع العديد من الجماعات الجهادية الأخرى في أفريقيا والشرق الأوسط، لدى حركة الشباب سجل طويل ومشين من عمليات الخطف. ففي نوفمبر 2008، احتجزت الجماعة راهبتين إيطاليتين (ماريا تيريزا أوليفيرو، 67 عامًا، وكاترينا جيرودو، 60 عامًا) كانتا تعملان أخصائيتين في مجال الإغاثة في “إل واك”، البلدة الحدودية الكينية. وقد اختُطفا من منزلهما، وأُجبرا على ارتداء البرقع وأُحضرا إلى مقديشو حيث احتجزا إلى حين الإفراج عنهما في فبراير 2009، بعد دفع فدية مزعومة قدرها 2 مليون دولار1. وقد رفضت وزارة الخارجية الإيطالية من جانبها دفع الفدية.
وفي يوليو 2009، اختطف مسلحون من حركة الشباب وحزب الإسلام مستشارين أمنيين فرنسيين يعملان لحساب الحكومة من فندق “الصحفي” في مقديشو. وتمكن أحد الرهائن، مارك أوبريري، من الفرار من خاطفيه (حزب الإسلام) في 26 أغسطس 2009. ومع ذلك، هناك تقارير متضاربة حول ما إذا كان أوبريري قد هرب بالفعل أو تم السماح له بذلك مقابل فدية. أما الرهينة الآخر، دينيس أليكس، فقد ظل في قبضة حركة الشباب لأكثر من 18 شهرًا، وقُتل في نهاية المطاف في محاولة إنقاذ فاشلة في بولو مارير في 11 يناير 2013.
وفي ديسمبر 2010، اختطف القراصنة الصوماليون الإسبانييْن خوان ألفونسو ري إيتشيفيري وخوسيه ألفونسو غارسيا، وهما قبطان ومساعده كانا يعملان في على متن سفينة صيد موزمبيقية، في الجنوب الغربي من جزر القمر (المحيط الهندي) مع 19 موزمبيقيًا وثلاثة إندونيسيين. وقد حدث ذلك في وقت عملت فيه حركة الشباب بشكل وثيق مع القراصنة المحليين، حيث وجدت في هذه العمليات مصادر دخل موثوقة. وتم الإفراج عن الإسبانيين في 14 مايو 2011 بعد دفع فدية قدرها 5 ملايين دولار.
والقائمة تطول. وفي أكتوبر2011، اختُطف اثنان من العاملين في منظمة أطباء بلا حدود في مخيم داداب (مقاطعة غاريسا) في أكتوبر 2011. وفي فبراير 2016، تم احتجاز رجل الأعمال الكيني جيمس جاشامبا رهينة لمدة 15 شهرًا. وفي سبتمبر 2017، توفي وزير الأشغال العامة الكيني بعد إصابته في عملية إنقاذ قامت بها قوات النخبة.
كل عمليات الاختطاف هذه تُثبت أن حركة الشباب لديها نمط واضح وثابت من استهداف العاملين الأجانب بهدف حمل حكوماتهم على دفع فدية. لذا، فإن اختطاف (رومانو) يجب أن يُنظر إليه ضمن هذا السياق، والسؤال عما إذا كانت الحكومة الإيطالية قد دفعت فدية مقابل إطلاق سراحها هو سؤال مشروع.
دور تركيا في إطلاق سراح رومانو
كما أفاد مؤخرًا “المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية”، فإن إطلاق سراح رومانو تم تأمينه من خلال الجهود المشتركة التي بذلتها ثلاثة أجهزة استخبارات دولية على الأقل، وهي: وكالة الاستخبارات الإيطالية، والاستخبارات الصومالية، والاستخبارات التركية. وينبغي ألا يفاجئ انخراط تركيا في مثل هذه العملية أحدًا. فمنذ عام 2011، ما فتئت أنقرة توسع نفوذها في الصومال، وتلعب دورًا رئيسًا في الوساطة في النزاعات المحلية، ووفقًا للدبلوماسي الصومالي السابق أبوبكر عرمان، فإنها تقوم بمشروعات مثل “حفر آبار المياه وإعادة بناء الطرق وإقامة المستشفيات”. وعلاوة على ذلك، تسيطر تركيا على ميناء مقديشو ومطارها.
وعندما أُطلق سراح رومانو وأُحضرت إلى قاعدة الأمم المتحدة في مقديشو، قيل إنها كانت ترتدي سترة واقية من الرصاص مع شعار الإمبراطورية العثمانية القديمة واضحًا. ووردت تقارير عن أن الدبلوماسيين الأمريكيين والبريطانيين قد فوجئوا بهذا وغضبوا لأنه لم يتم إعلامهم بالأمر مسبقًا. وكان من الواضح لهم ولبقية العالم أنه إذا تم دفع فدية لحركة الشباب، فإنها لن تأتي مباشرة من روما.
ومع ذلك، لم يكن لتركيا وحدها ما يكفي من النفوذ أو المصلحة للتفاوض مع حركة الشباب من أجل إطلاق سراح رومانو. لذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: من الذي يمكنه الاستفادة مباشرة من إطلاق سراحها واستعداده للعمل كوسيط بين روما وحركة الشباب؟ الجواب هو قطر.
قطر وتركيا: مصالح متداخلة
منذ انتفاضات الربيع العربي عام 2011، دأبت تركيا وقطر على مواءمة سياستهما الإقليمية ودعم الحركات الإسلامية مثل جماعة الإخوان المسلمين والمتمردين السوريين الذين يقاتلون للإطاحة بالرئيس بشار الأسد. دفع دعم قطر لمختلف الجماعات الإرهابية والطائفية المجموعة الرباعية العربية (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) إلى مقاطعة قطر وفرض حظر بحري وجوي في يونيو 2017. ومنذ ذلك الحين، كثفت أنقرة دعمها للدوحة، بل ونشرت قوات في الخليج للمساعدة في تدريب الجيش القطري.
قطر وإيطاليا: تعزيز العلاقات الاقتصادية
من جانبها، عززت إيطاليا علاقتها الاقتصادية مع قطر منذ عام 2016 من خلال بيع سبع سفن حربية من طراز فينكانتيري مقابل 4 مليارات يورو، و28 مروحية من طراز NH 90 مقابل 3 مليارات يورو، وتوقيع اتفاق بقيمة 6 مليارات يورو لعدد 24 طائرة مقاتلة من طراز تايفون من “كونسورتيوم يوروفايتر”، الذي تمتلك فيه شركة “ليوناردو فينميكانيكا” حصة يبلغ قدرها 36%. وفي الوقت نفسه، أثبتت قطر بحكم الواقع أنها واحدة من أكبر المستثمرين الأجانب في إيطاليا. والأكثر من ذلك، في 27 مايو 2020، صدّق البرلمان الإيطالي على اتفاقية بشأن التعليم والجامعات والبحث العلمي مع قطر، تم التوقيع عليها لأول مرة في عام 2012 من قبل رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو مونتي وأمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني.
وفي يناير 2020، قام الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا بزيارة لأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني لتعزيز شراكتهما الطويلة الأمد. وكان برفقة ماتاريلا رجل مهم: الجنرال لوتشيانو كارتا، رئيس الاستخبارات الإيطالية، الذي سيصبح قريبًا رئيسًا لشركة ليوناردو، وهي شركة عالمية ذات تكنولوجيا عالية في مجال الفضاء والدفاع والأمن، بعائدات تصل إلى 13.8 مليار يورو. وباستثماره في مثل هذا الدور المزدوج، كان كارتا الرجل المناسب في المكان المناسب.
مناجم اليورانيوم في الصومال: فرصة اقتصادية
في الوقت نفسه، أفادت التقارير أن قطر تقوم بعمليات عدة في وسط منطقتي مودوج وجالجادوج- اللتين تحتلهما قبيلة فرعية تسمى آر- وهما تمثلان العمود الفقري لحركة الشباب. وتكمن مصلحة الدوحة الرئيسة في مناجم اليورانيوم. ورغم أن قطر لا تملك أي محطات للطاقة النووية حتى الآن، فإنها تستطيع بيع اليورانيوم إلى دولة أخرى تمتلكها: حليفتها إيران على سبيل المثال، التي عززت علاقتها مع الدوحة منذ أن تم وضع المقاطعة موضع التنفيذ.
كرئيس مستقبلي لليوناردو، يمكن القول إن كارتا لديه مصلحة راسخة في نجاح قطر في مثل هذه العملية التي كان من الممكن أن تعزز تعاونهما الاقتصادي المقبل (كما زعم ماسيمو أ. ألبيريزي ومونيكا أ. ميستريتا في تقريرهما الذي نشر في موقع أفريقيا إكسبريس). وفي الوقت نفسه، وقعت شركة إيه تي آر (ATR) الفرنسية-الإيطالية لصناعة الطائرات، اتفاقية مع شركة الخطوط الجوية الإيرانية لبيع 20 طائرة من الجيل الجديد من طراز ATR 72-600s، مع خيار لبيعها 20 طائرة أخرى بقيمة مليار يورو، وهو مكسب لكل من إيران وقطر. وفي الوقت نفسه، ربما كان كارتا مدفوعًا أيضًا بفكرة إنهاء مسيرته المهنية في مجال الأمن بإحراز نجاح مهم، ولم يكن ليتحقق له ذلك إلا من خلال قطر (بمساعدة القوات التركية في المنطقة).
وفي حين ينبغي الاحتفال بإعادة رومانو إلى أرض الوطن، ينبغي التحقيق في الظروف المريبة المحيطة باختطافها وإطلاق سراحها.
*أستاذ بجامعة كارديف البريطانية
المراجع:
[1] Maruf, Harun. Inside Al-Shabaab: The Secret History of Al-Qaeda’s Most Powerful Ally. Indiana University Press, 2018.