شهدتِ السنوات العشر الماضية زيادةً واضحة في انتشار السرديات المضادة، والروايات البديلة، وحملات الاتصال الاستراتيجية المستخدمة كأدواتٍ للقوة الناعمة لمواجهة خطر تحوُّل التشدد إلى التطرف. وتستند هذه التدابيرُ إلى افتراض أن عملية التطرف تتوقف جزئيًا على استهلاك المواد المتطرفة؛ سواء عبر الإنترنت أو خارجها؛ أي أن الأفراد بحاجة إلى الانخراط الاجتماعي فيما يسميه الخبير في شؤون التطرف الدكتور هارورو ج. إنجرام “منظومة تنافسية للمعنى” (competitive system of meaning)1 من خلال التعرض للسرديات المشحونة أيديولوجيًا. وبعبارة أخرى، لكي تنجح عملية التطرف، يحتاج الأفراد إلى تبني وجهات نظر و”روايات” متطرفة يحكمون من خلالها على العالم.
ورغم انتفاء أي شك في الدور الذي تلعبه المواد الدعائية في التجنيد والتطرف2، فإن بعضَ الباحثين انتقد هذا الافتراض، وتحدى فكرة أن التعرض للأيديولوجيا عن طريق السرديات أمرٌ ضروري للتطرف، لدرجة أنهم سموها “فكرة مجافية للعقل”3. ومع ذلك، فيبدو أن العديد من الجهات الفاعلة السياسية -وبالتالي منظمات المجتمع المدني- تبنى تدابيرها لمنع التطرف العنيف ومكافحته على أساس هذا الافتراض على وجه التحديد. يتضح هذا بشكل خاص في الاتحاد الأوروبي، حيث يمكن القول إن المملكة المتحدة قد قدمت إطارًا ناجحًا للرواية المضادة4 الذي أصبح الآن أساسًا نظريًا مهمًا لكل من سياسة الاتحاد الأوروبي، والسياسة على المستوى الوطني في العديد من الدول الأعضاء5.
وإذا افترضنا أن التطرف يعتمد جزئيًّا على التعرض لرواياتٍ محددة وتبنِّيها، فإن ذلك يعني منطقيًا أن التدابير المضادة يجب أن تخفف من خطر الروايات المتطرفة. ويتم استكمال هذه الخطوات بتدابير القوة الصلبة، مثل إزالة المحتوى المتطرف من المنصات الإلكترونية، وتطوير ونشر الروايات البديلة والمضادة. وتهدف الروايات المضادة إلى نزع الشرعية عن الروايات المتطرفة، على سبيل المثال، عبر فضح نفاقها أو إظهار أن العنف ليس وسيلة مقبولة لتسهيل التغيير السياسي6. وفي حين أن الروايات المضادة غالبًا ما تكون رد فعل، فإن الروايات البديلة تعرض بشكلٍ استباقي محتوى إيجابيًّا وتظهر ما نؤيده بدلًا مما “نعارضه”7. وقد استخدمت الحكومات كلا النوعين من نُهج الروايات على الإنترنت وخارجها على حد سواء، على سبيلِ المثال الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، فضلًا عن العديد من منظمات المجتمع المدني.
التكلفة مقابل الفائدة
كلما تلقى مجال من مجالات السياسات تمويلًا، مثل ما يحصل عليه حاليًا برنامج منع التطرف العنيف ومكافحته، تصدر على الفور دعواتٌ للتقييم، ولا تشكِّل الروايات المضادة استثناء في هذا الصدد. فلقد شهدتِ السنوات الأخيرة مناقشاتٍ حول مقدار “القيمة مقابل المال”8 التي تحققها مثل هذه الحملات. وحقيقة أن عددًا قليلًا جدًّا من تلك البرامج قد تم تقييمه من قبل باحثين مستقلين أثارت انتقاداتٍ كثيرة9. ففي نهايةِ المطاف، هكذا تقول الحجة، ربما يتم استثمار ملايين اليوروات في أساليب لا تسفرُ سوى عن نتائج إيجابية قليلة، إن وجدت أصلًا. وفي أسوأ الحالات، يمكن أن تأتي الروايات المضادة بنتائج عكسية، ويكون لها آثار سلبية، ما يجعل التقييم أكثر أهمية10.
غير أن قائمة العقبات التي تعترض التقييم الفعّال لحملات الروايات المضادة طويلة، ويبدو أنها تستعصي على الحل. وما المشكلات المذكورة هنا سوى لمحة موجزة لمختلف القضايا المحيطة بتقييم حملات الروايات المضادة.
عقبات التقييم
بادئ ذي بدء، من الصعب للغاية إثبات أن حدثًا سلبيًا لا يُعد من قبيل التطرف. وبما أنه يُعتقد أن التطرف نتاج مجموعة متغيرة من العوامل11 على مستويات متعددة تتعلق بكل من الفرد وبيئته الاجتماعية، فليس من المستغرب استحالة تتبع عدم الوقوع في التطرف لعاملٍ واحد مثل التعرض لرواية مضادة. ومن المستبعد جدًّا أن تكون الروايات المضادة وحدها مسؤولة عن التخفيف من خطر التطرف.
ثانيًا، في حين يمكن تقييم التدخلات الأخرى مثل حملات مكافحة المخدرات أو البرامج الرامية إلى منع حمل المراهقات، باستخدام آلاف المشاركين، فإن حملات منع التطرف العنيف ومكافحته تستهدف، بحكم طبيعتها، أقلية ضئيلة. فهناك عدد قليل من الأشخاص المعرضين لخطر التطرف، بل وهناك عدد أقل من ذلك سيتصرف بناء على مثل هذا التطرف. وهذا يعني أيضًا أنه لا يمكن إجراء دراسة مقارنة معقولة، لأنه من غير المرجح أن تجد “مجموعة ضابطة” control groupمماثلة بما فيه الكفاية للمجموعة “المعرضة للخطر”، ومع ذلك ليست معرضة “للخطر”12.
ثالثًا، بالاقتران مع هذه المسائل المفاهيمية، هناك مخاوف عملية فيما يتعلق بالتقييمات. وقد لا تكون لدى الجهات الفاعلة في المجتمع المدني الموارد المالية اللازمة لتوظيف مقيّمين مستقلين، وقد تتردد في القيام بذلك حتى لو أمكن ذلك؛ لأن التقييم السلبي قد يؤدي إلى تقليص التمويلات أو سحبها. ولذلك، فقد يتم إجراء تقييمات داخلية، ولكن لا يتم نشرها. ولا يزال هناك أيضًا سؤال عن نوع “النجاح” الذي يمكن أن تقيسه هذه التقييمات. هل تُعتبر الحملة ناجحة فقط عندما لا يتطرف أحد في المجموعة المستهدفة مرة أخرى؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، كم عدد الذين يمكن أن يتطرفوا لكي تعتبر الحملة ناجحة؟ هل من الضروري حتى إثبات عدم التطرف؟ وإذا كان هناك عامل محدِّد متفق عليه للنجاح، فما هي المنهجية المناسبة لقياسه؟13
علاوة على ذلك، فقد يُشكِّل الفضاء الإلكتروني مشكلاتٍ محددة للتقييم. فعلى سبيل المثال، كثيرًا ما تُنشر الروايات المضادة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن تدابير المشاركة التقليدية المستخدمة في الإعلانات مثل الإعجاب، أو المشاركات أو التعليقات قد تكون مؤشرًا جيدًّا على الوصول، ولكن ليس على الأثر الفعلي. إذ يمكن للحملة أن تولِّد الآلاف من الإعجابات، ولا تصل إلى الجمهور المقصود.
وباختصار، فإن محاولة تقييم حملات الروايات المضادة وإثبات فعاليتها بدرجة كافية من اليقين أمرٌ مستحيل بفضل الأدوات المتاحة حاليًا. وفي حين أن التقييم يحتاج بالتأكيد إلى مناقشة مستمرة، فإنه ليس من الحكمة التشكيك في جدوى الروايات المضادة التي تستند فقط إلى عدم وجود دليل على أنها تتصدى مباشرة لعمليات التطرف.
الروايات المضادة حيوية لتشكيل الخطاب العام
الواقع هو أن الروايات المضادة لها قيمة تتجاوز نطاق ممارسات مكافحة التطرف. لقد كُتب الكثير عن الاستقطاب المتزايد للخطاب المجتمعي، وخاصة في الفضاء الإلكتروني. في حين أن المتطرفين لديهم “مجتمعاتهم” الخاصة بهم على الإنترنت14، لا يحتاج المرء إلى الغوص في عمق الهاوية المتطرفة من “ثقافة 4chan” للعثور على خطاب الكراهية والتمييز والتنمر الإلكتروني والخطاب الحاد والعنيد بشكل عام، الذي يخلو بشكل متزايد من أي حل وسط. ويمكن ملاحظة ذلك أيضًا على مواقع التواصل الاجتماعي الرئيسة، والعديد من الصحف والمدونات تغلق أقسام تعليقاتها لمنع الخطابات من التعرض للخطف من قبل المتصيدين أو إغراقها بخطاب الكراهية15. ويُعزى جزء من هذا إلى ما وصفه علماء النفس تأثير إزالة التثبيط disinhibition effect على الانترنت16 الذي يعني أن الناس يشعرون بمزيد من الراحة (التحرر من القيود المثبطة) في التعبير عن الآراء غير السائدة في عالم مجهول على الانترنت. ومع ذلك، فهذا أيضا يعود جزئيًّا لطبيعة تصميم الفضاء الإلكتروني. فعلى سبيل المثال، ترى أنجيلا ناجل المؤلفة والخبيرة في شؤون اليمين البديل17، أن المتطرفين اليمينيين يسعون عمداً إلى تحريك ما يعرف بـ “نافذة أوفرتون” لما يمكن وما لا يمكن قوله علنًا لتحويل الخطاب العام نحو قبول المزيد من المصطلحات اليمينية المتطرفة. على سبيل المثال، فقد تبين أنه يُنظر إلى أقسام التعليقات على أنها تمثل إشارات للمعايير الاجتماعية، وبالتالي يمكن أن تؤثر على المواقف والسلوكيات18.
وبسبب أنماط الخطابات المستقطبة على الإنترنت، فإن الروايات المضادة، ولا سيما الروايات البديلة، لها قيمة تتجاوز دورها في عمليات مكافحة التطرف. إنها أدوات قيمة “للتنافس على الفضاء”، ليس فقط في مواجهة المتطرفين، ولكن في مواجهة خطاب الكراهية بشكل عام. الخطاب واللغة مهمان، وفي ظل التشابك المتنامي للعالم المتصل بالإنترنت وغير المتصل به، فإن الخطاب على الانترنت أكثر أهمية. الأطر والروايات التي نتعرض لها تشكِّل تصوراتنا للعالم. وإذا لم تتصدَ الجهاتُ الفاعلة في المجتمع المدني لخطابات الكراهية على الإنترنت، فإن الأمر مسألة وقت فقط حتى تؤدي اللغة الإلكترونية “البربرية” إلى تأثيرات على العالم الحقيقي غير المتصل بالإنترنت: أي في أكشاك الاقتراع، وفي البرلمانات، وفي العلاقات الاجتماعية بشكلٍ عام. وهذا أمر خطير لأن الديمقراطيات السليمة تعتمد على التصورات والمواقف العامة. وهناك حاجة إلى روايات إيجابية بديلة كثقل موازِن ليس للخطابات المتطرفة فحسب، ولكن أيضًا للخطابات غير المتطرفة، التي تُعرِّض الديمقراطية للخطر من خلال تغيير تصورات المجتمع. وحتى لو لم يتم منع أي شخص من تحويل الآخرين للتطرف لأنه تعرض لرواية مضادة، فإن هذه الحملات ذات قيمة للعلاقات الاجتماعية ككل.
الخلاصة
لقد ثبت منذ فترةٍ طويلة أن التأطير والخطابات مهمة؛ لأنها تُشكِّل ما نعتبره حقيقيًّا. ولذلك، فبينما تشكِّل التقييمات سبيلًا مهمًّا للحكم على قيمة السردية المضادة، فإنها لا يمكن ولا ينبغي أن تكون السبيل الوحيد. وينبغي على المسؤولين عن تمويل الروايات المضادة وتطويرها وتنفيذها، لا سيما أولئك المكلفين بالحكم على فعاليتها، أن يتجاوزوا الآثار المباشرة للرواية المضادة على عمليات التطرف. لذا، يجب أن تؤخذ الآثار غير المباشرة لهذه الروايات في تشكيل الخطابات المجتمعية في الحسبان. وهذا أمر صعب باعتراف الجميع في نهج سياسة “القيمة مقابل المال”. غير أنه من الضروري التوفيق بين قياسات الفعالية والآثار الأوسع نطاقًا التي قد تترتب على الروايات المضادة. ففي نهاية الأمر، يتعين علينا أن نسأل عن الآثار المحتملة لعدم التنافس على الفضاء، وعدم الاستثمار في الخطابات الإيجابية.
- يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
*مستشارة في مكافحة الإرهاب في مؤسسة كونراد أديناور ببرلين
المراجع:
[1] Ingram, H. “Deciphering the Siren Call of Militant Islamist Propaganda: Meaning, Credibility & Behavioural Change.” 2016, https://icct.nl/wp-content/uploads/2016/09/ICCT-Ingram-Deciphering-the-Siren-Call-of-Militant-Islamist-Propaganda-September2016.pdf
[2] Gill, P., Corner, E., Conway, M., Thornton, A., Bloom, M. and Horgan, J. “Terrorist Use of the Internet by Numbers: Quantifying behaviors, patterns, and processes.” Criminology & Public Policy, vol. 16, no. 1, 2017, pp. 99-117
[3] Awan, A., Miskimmon, A. and O’Loughlin, B. “The Battle for the Battle of the Narratives: Sidestepping the double fetish of digital and CVE” in Bjola, C. and Pamment, J. (eds) Countering Online Propaganda and Extremism: The dark side of digital diplomacy, 2019, pp. 156-171
[4] Kundnani, A. and Hayes, B. “The globalization of Countering Violent Extremism policies: Undermining human rights, instrumentalizing civil society.” 2018, https://www.tni.org/files/publication-downloads/the_globalisation_of_countering_violent_extremism_policies.pdf
[5] For instance, the European Radicalizaiton Awareness Network has a working group on “communications and Narratives” and publishes advise for counter-narrative practitioners in EU member states, e.g. Ritzmann (2019). Effective Narratives: Updating the GAMMMA+ Model. Retrieved from: https://ec.europa.eu/home-affairs/sites/homeaffairs/files/what-we-do/networks/radicalisation_awareness_network/about-ran/ran-c-and-n/docs/ran_cn_academy_creating_implementing_effective_campaigns_brussels_14-15112019_en.pdf
[6] Hedayah. “Developing Effective Counter-Narrative Frameworks for Countering Violent Extremism.” 2014, http://www.icct.nl/download/file/Developing%20Effective%20CN%20Frameworks_Hedayah_ICCT_Report_FINAL.pdf
[7] Radicalization Awareness Network (2015). Counter Narratives and Alternative Narratives. Retrieved from: https://ec.europa.eu/home-affairs/sites/homeaffairs/files/what-we-do/networks/radicalisation_awareness_network/ran-papers/docs/issue_paper_cn_oct2015_en.pdf
[8] Lindekilde, L. “Value for Money? Problems of Impact Assessment of Counter-Radicalisation Policies on End Target Groups: The Case of Denmark.” European Journal on Criminal Policy and Research, vol. 18, 2012, pp. 385-402
[9] Hemmingsen, A-S. and Castro Moller, K. “The Trouble with Counter-Narratives.” 2017, https://www.diis.dk/en/research/why-counter-narratives-are-not-the-best-responses-to-terrorist-propaganda
[10] Bélanger, J., Nisa, C., Schumpe, B., Gurmu, T., Williams, M. and Eka Putra, I. “Do counter-narratives reduce support for ISIS? Yes, but not for their target audience.” Frontiers in Psychology, vol. 11, 2020, https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC7325943/
[11] Ranstorp, M. “Root Causes of Violent Extremism.” 2016, https://ec.europa.eu/home-affairs/sites/homeaffairs/files/what-we-do/networks/radicalisation_awareness_network/ran-papers/docs/issue_paper_root-causes_jan2016_en.pdf
[12] Carthy, S., Doody, C., O‘Hora, D. and Sarma, K. “PROTOCOL: Counter‐narratives for the prevention of violent radicalisation: A systematic review of targeted interventions.” 2018, https://onlinelibrary.wiley.com/doi/full/10.1002/CL2.202
[13] Feddes, A. and Galucci, M. “A Literature Review on Methodology used in Evaluating Effects of Preventive and De-radicalisation Interventions.” Journal for Deradicalization, vol. 5, 2015, pp. 1-27
[14] Guhl, J., Ebner, J. and Rau, J. “The Online Ecosystem of the German Far-Right.” 2020, https://www.bosch-stiftung.de/sites/default/files/publications/pdf/2020-02/ISD-The%20Online%20Ecosystem%20of%20the%20German%20Far-Right.pdf
[15] Green, M. “No comment! Why more news sites are dumping their comment sections,” KQED. 24 Jan. 2018, https://www.kqed.org/lowdown/29720/no-comment-why-a-growing-number-of-news-sites-are-dumping-their-comment-sections
[16] Suler, J. “The Online Disinhibition Effect.” Research Gate, 6 Jul. 2004, https://www.researchgate.net/publication/8451443_The_Online_Disinhibition_Effect
[17] Nagle, A. Kill All Normies: Online Culture Wars from 4chan and Tumblr to Trump and the Alt-Right. John Hunt Publishing, 2017.
[18] Stoud, N., Scacco, J., Muddiman, A. and Curry, A. “Changing deliberative norms on news organizations’ Facebook sites.” Journal of Computer-Mediated Communications. vol. 20, no. 2, 2014, pp. 108-203