جيمس روبنز**
في شهرِ ديسمبر 2019، صدَّق مجلسُ الشيوخ الأمريكي بالإجماع على تصويتِ مجلس النواب الذي جرى في شهر أكتوبر من العامِ ذاته الذي اعترف رسميًا بالإبادة الجماعية للأرمن. ويُعدّ هذا التصديقُ علامةً فارقة، والجدير بالذكر أنه منذ عام 1965؛ الذكرى السنوية الخمسين لإبادةِ أرمن الأناضول على يد الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، رفع الأرمن مظالمهم، أمام برلمانات العالم، مصرِّين على أنه يجب تحقيق شكلٍ من أشكالِ العدالة. وفي حين تؤكد دولٌ مثل الأرجنتين، وكندا، ولبنان، وألمانيا، وروسيا، الإبادةَ الجماعية، وتُجرِّم دولٌ أخرى مثل فرنسا واليونان إنكارها، فإن محاولات تمرير مشروعات قوانين عبر الهيئات العليا في الولايات المتحدة كانت دائمًا ما تفشل.
في الواقع، كانتِ المؤسساتُ الأمريكية ساحةَ المعركة الرئيسة للاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن. في عام 1965، كان حكام ولايتي ماين وماساتشوستس أوَّل رؤساء ولاياتٍ يعترفون بالإبادة الجماعية، تلتها على مدار سنوات، 47 آخرون. ومع ذلك، كان دائمًا ما يتم وقف المقترحات والقرارات التي تقترب من التصويت الكامل في مجلس النواب (في الأعوام 1984 و1989 و1990 و1995 و2000 و2010)، عادة بعد ضغط مكثف، بما في ذلك التهديدات والابتزاز الدبلوماسي، من قبل الحكومة التركية.
يعتبر الكثيرُ من الأرمن، لا سيما الأغلبية الساحقة التي تعيش في الشتات، أن الاعتراف بمنزلة قيمة معنوية مهمة أولًا، وكمداواة نفسية للأرمن. وثانيًا، أنه الاستراتيجية الرئيسة لمقاومة الإنكار التركي، حيث دأبت تركيا على التنصل والإصرار على أن معاملتهم لم تكن منهجية أو متعمدة. وفي أكثر أشكال الموقف التركي تطرفًا، يوجد في بعض الأحيان -إلى جانب إنكار أن الأرمن قد ذُبحوا عن عمدٍ من قبل الدولة- مخطوطات تاريخية تقول إنه يجب القضاء على الأرمن العثمانيين، بسبب تعاونهم مع أعداء أجانب أثناء الحرب.
منذ أن تبنى الأرمن لأول مرة استراتيجية السعي للحصول على اعتراف العالم بالإبادة الجماعية لهم، لم يحدث تحول يُذكر في طابع الرد التركي. ورغم أن لهجة سياستها وتكتيكاتها قد تحولت وانحنت لتتماشى مع العصر، لم يحدث تغيير جذري. كل هذا يجعل الشتات الأرمني، حتى بعدما حقق أكبر نصر حتى الآن، يظل عاجزًا عن تحقيق كامل أهدافه. ذلك أنهم بعد عقود من مشروعات القوانين الناجحة، وبعد سنوات من الجهد، لم يحققوا سوى القليلِ بالنظر إلى أن هدفهم الحقيقي هو تغيير نظرة المواطنين الأتراك تجاههم.
سياسة الإنكار التركية للإبادة الجماعية: الماضي والحاضر
بشكلٍ عام، مرّت سياسة الإنكار التركية بسلسلة من المراحل، في البداية، كانت هناك مرحلة من الصمت خلال الفترة الاستبدادية التكوينية التي تلَت حرب الاستقلال، التي شهدت هي نفسها “عمليات تطهير” إضافية واسعة النطاق لغير المسلمين من الأناضول، تحت إشراف مصطفى كمال، ولم يتم ذكر الإبادة الجماعية أو حتى الإشارة إليها. وخضعت الكتب القادمة إلى الدولة من الخارج، التي تجرأت على التحقيق في الموضوع، لرقابةٍ صارمة. كسرتِ الدولةُ التركية هذا القالب مرة واحدة فقط، خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وضغطت مباشرة على وزارة الخارجية الأمريكية لوقف عرض فيلم شركة (MGM) المستوحى من رواية فرانز ويرفيل الرومانسية الملحمية بعنوان «الأيام الأربعون لجبل موسى».
استمر الوضع حتى سبعينيات القرن العشرين، حيث بدأتِ الدولةُ التركية في تغيير نهجها، وصاغت رواية رسمية بديلة في أعقاب الذكرى السنوية الخمسين التي شهدت احتجاجات غاضبة في مدينة يريفان ضد حكامهم السوفييت، وظهور حملة إرهابية دامية وعمليات إطلاق نار وتفجيرات ضد الدبلوماسيين والمؤسسات التركية من قبل القوميين الأرمن المتطرفين.
وكما أوضحتِ العالمةُ السياسية جينيفر ديكسون، في عام 1980، فإن الطغمةَ العسكرية (مجموعة سياسية وصلت إلى الحكم بصورة استبدادية) في عهد كينان إيفرين (تحديدًا دائرة الاستخبارات التابعة لمجلس الأمن القومي) قد استجابت للحملة الإرهابية الأرمنية من خلال صياغة شكل متماسك من أشكال الإنكار وفرضه، والدعاية له. وتم تشجيع الدبلوماسيين الأتراك المتقاعدين على البحثِ في المواد الأرشيفية (التي تم اختيارها والموافقة عليها مسبقًا) ونشر الأعمال التي تتعارض مع “السردية الأرمنية”. وهكذا، ساهمت مثل هذه الكتب في خلق “واجهة” من الاحترام والحجية الأكاديمية لسياسة الحكومة، كما أثرت على الكتب الدراسية التركية الجديدة لطلاب الثانوية والمرحلة الجامعية. ونتيجة لذلك، ارتفع عدد “الكتب التاريخية” الرسمية وشبه الرسمية بهذه الطريقة بشكلٍ حاد، من كتاب واحد نُشر حول هذا الموضوع بين عامي 1976 و1980، إلى واحدٍ وعشرين كتابًا بين عامي 1981 و1985.
وهكذا، عبر “فتح” الأرشيفات، استطاع النظام التركي ادعاء أنه يتخذ خطوات إيجابية بحثًا عن “الحقيقة”، وإن كان وزير الخارجية في ذلك الوقت مسعود يلماز قد قال صراحة إن هدفهم هو “بالأساس إفشال ادعاءات الإبادة الجماعية للأرمن”.
منذ ذلك الحين، وبدلًا من مجرد التسامح مع دعوات الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن بنوع من التجهم الشديد، بدأتِ الطغمةُ العسكرية، والحكومات المدنية اللاحقة، في شنِّ هجومٍ مضاد: حدث ذلك بشكل أكثر صرامة من الإنكار والتهديدات بفرض عقوباتٍ دبلوماسية، بل وحتى إطلاق تحذيرات تستهدف أرواح الأجانب داخل تركيا. وفي عام 2000، على سبيل المثال، عندما كان يقترب مشروع قانون للاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن من مجلس النواب الأمريكي، أرسلت أنقرة وفدًا من أعضاء الجمعية الوطنية إلى واشنطن، محذرة من أن عقود الدفاع المربحة ستلغى، وأن القواعد الجوية التركية ستغلق في وجه قاذفات القنابل الأمريكية. وفي نهايةِ المطاف، تم وقف تصويت مجلس النواب الأمريكي عندما ادَّعت وزارةُ الخارجية الأمريكية أن تركيا “لا تستطيع ضمان سلامة المواطنين الأمريكيين… في ضوء العنف غير المتوقع”.
الحراك من أجل الاعتراف بالإبادة الجماعية في تركيا
في هذا السياق من الإنكار اللا متناهي والانتقام الشديد، سعى المفكر التركي الأرمني هرانت دينك إلى تغيير الوضع. بصفته محررًا لمجلة أجوس (Agos) الأسبوعية الجريئة التي تصدر بثلاثِ لغات، وبصفته معلقًا بارزًا في الصحف والقنوات التليفزيونية، أصرَّ دينك على أن استراتيجية الشتات المتمثلة في ممارسة الضغط من أجل استصدار قرارات بالاعتراف بالإبادة أثبتت أنها عديمة الجدوى ما لم يصاحبها تركيز على إقامة الديمقراطية في تركيا. وفي هذا الصدد، قال دينك: “إن القضية الأساسية هي أن يُدرك المجتمع في تركيا الواقع التاريخي. ولن يصبح هذا ممكنًا إلا من خلال تطوير الكفاح من أجل الديمقراطية في تركيا”.
رأى دينك أن الخوف الكبير والعميق من الأرمن كان منتشرًا في المجتمع التركي، وأنه من بقايا البارانويا و”عقلية الحصار” التي عانتها “جمعية الاتحاد والترقي”، وعهد الكمالية. كانتِ البارانويا والخوفُ من الأرمن، كما كتب دينك في كتاب له بعنوان «شعبان قريبان، جاران بعيدان»، هي “المكون الأساسي في بناء الهوية الوطنية التركية. أزيلوا هذا المكون، كراهية الآخر، وقد تنهار الهوية”. وحتى يومنا هذا، غالبًا ما يتم استخدام (Ermeni) باللغة التركية، أي أرمني، كإهانة.
إن ما كان يفعله الأرمن في الشتات في كل مرة يمارسون فيها الضغط وينجحون في استصدار قرار اعتراف جديد بالإبادة هو إعادة تأكيد الخوف التركي المنتشر من أن الأرمن -ككل- يعارضون بشدة وجود تركيا، وأنهم سيطالبون قريبًا بتعويضات مالية، وأنهم سيعودون في يومٍ ما للمطالبة بأرض الأناضول الشرقية (التي يطلق عليها البعض أرمينيا الغربية)، أو أنه قد تحدث موجة أخرى من الإرهاب.
موقف دينك هذا جعله لا يحظى بشعبيةٍ بين الكثير من أفراد الشتات الأرمني، خاصة أنه أحد الأرمن الناطقين باللغة التركية في إسطنبول، وباعتباره أحد هؤلاء الأرمن اليائسين الذين لا يزالون في أراضي ميلادهم، ورغم كونه أكثر ارتباطًا بالمجتمع، ويمكنه ملاحظة التوترات والتناقضات: “عندما تحاول تطبيق [الاعتراف] في المجتمعات التي لا تكون فيها المعرفة مجانية، فإن المفارقة الحقيقية تظهر من تلقاء نفسها” ويضيف:
في المجتمعاتِ التي لا يمكن فيها ممارسة الحق في المعرفة بشكل كافٍ، إذا كان الناس يتحدثون ويتجادلون فقط في معرفة ما يمكنهم الوصول إليه، كيف يمكن اعتبار ذلك جريمة؟ بعد أن تعتبرها جريمة، هل تستطيع أن تضع مرتكبُ الجريمة في صفِّك في الكفاح ضد الإبادة الجماعية؟ إذا كان الرجل يعرف ذلك فقط، ويتصرف وفقًا للعقلية التي شكَّلها على أساسِ تلك المعرفة، فما نوع التغيير الذي سيحدثه قانونك في عقليته؟.. في النهاية، ليس الأمر هو أن المجتمع التركي يعرف الحقيقة ولكنه ما زال ينكرها، إنه يدافع عما يعرف أنه الحقيقة.
تزامنت لحظة شهرة هرانت دينك (وسمعته السيئة) مع لمحة تفاؤل للديمقراطيين الأتراك، خلال السنوات التي بدأت فيها تركيا عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ورغم أن المتشددين من المحرضين واصلوا هجماتهم، ورغم أن وزارة العدل تعرضت لضغوط لمقاضاة كتاب مرموقين مثل أورهان باموق، وإليف شافاق، ومراد بيلج بتهمة “تشويه سمعة تركيا” بموجب المادة 301 سيئة السمعة من قانون العقوبات التركي، فإن ثمة انفراجة كانت تحدث في التعبير عن الرأي.
أظهر مؤتمرٌ حول “الأرمن العثمانيين خلال عصر الأفول الإمبراطوري”، الذي عُقد في جامعة بيلجي في إسطنبول في سبتمبر 2005، أن الأكاديميين الأتراك الليبراليين، ونظراءَهم الأجانب، يمكنهم مناقشة تاريخ الإبادة الجماعية بجدية وصدق، وأن إحراز تقدم تدريجي أمر ممكن – حتى لو كان على هؤلاء الأكاديميين إجراء نقاشهم خلف الأسوار الفولاذية التي أقامتها شرطة إسطنبول لحمايتهم من القوميين الذين يرمونهم بالبيض.
لكن عقب ذلك بعامين، في عام 2007، اغتيل هرانت دينك أمام باب مجلة “أجوس”. وكان اغتياله عاملًا مساعدًا: موجة من الحزن، في اسطنبول على وجه الخصوص، وإدراك مفاجئ للندم من المثقفين في الشتات الذين سبق لهم أن سخروا منه. لكن وفاة دينك تزامنت أيضًا مع نهاية تحرر تركيا.
الوضع الحالي
انهارتِ المحادثات الطويلة، ومؤتمرات القمة، بين تركيا والجمهورية الأرمينية بين عامي 2007 و2009 حول التوترات الحدودية المشتركة، وتطبيع العلاقات الدبلوماسية. كانتِ الحكومةُ الأرمينية مستعدة لأن تسقط مسألة الإبادة الجماعية -ثمن تأمين وجود سلمي- إلى أن ضاعف المسؤولون الأتراك دعمهم لأذربيجان في نزاعهم حول إقليم ناجورنو كاراباخ.
أغرَى الاتحاد الأوروبي الجمهورية التركية لتقديم المزيد من التنازلات حتى مع انعدامِ الأمل في انضمام تركيا للاتحاد، إلى أن تخلَّت أنقرة في النهاية عن السعي لذلك تمامًا، ما أدَّى إلى تقليص الضغوط التي كانت تمارس عليها لإضفاء الطابع الديمقراطي على مؤسساتها. ونتيجة لذلك، أضحى الموقف التركي من الإبادة الجماعية للأرمن، الذي كان يلين نوعًا ما، في منتصف العقد الأول من القرن العشرين، ثابتًا لا يتزحزح.
أصدر الرئيس رجب طيب أردوغان تصريحاتٍ متناقضة تمامًا في غضون عامين. ففي عام 2014، كان يتحدث عن “الألم المشترك” و”الواجب تجاه الإنسانية أن… نتذكر المعاناة التي مررنا بها” خلال الحرب العالمية الأولى. ولكن بحلول عام 2016، بعد اعتراف ألمانيا بالإبادة الجماعية، أصر أردوغان على أن موقف حكومته “من القضية الأرمنية واضح منذ البداية. لن نقبل أبدًا اتهامات الإبادة الجماعية”.
وهذا هو الحال الذي عليه السياسة التركية الآن، حيث أصبح موقف الحكومة أكثر عنادًا وتشددًا من ذي قبل، خاصة في وقت تذبل فيه الآمال في إحياء الديمقراطية التركية يومًا بعد الآخر. بعد تصويت مجلس النواب الأمريكي في شهر أكتوبر، وصف وزير الخارجية مولود جاويش أوجلو هذا القرار بأنه شكل من أشكال “الانتقام”، وبأنه “قرار مخجل” ممن “يستغلون التاريخ”، و”باطلٍ ولاغٍ بالنسبة لحكومتنا وشعبنا”.
في ضوءِ ما سبق، تنبغي إعادةُ النظر في التحذيرِ الذي أطلقه هرانت دينك للشتات الأرمني قبل أكثر من عشر سنوات مضت. كان يؤمن بأن “النجاح الحقيقي لا يتحقق عبر قراراتِ المحاكم ولا القوانين التقييدية، بل من خلال توفير بيئة للحوار تُحدِثُ بدورِها تغييرًا في العقلية… وأن الإنكار أو الاعتراف، من دون فهمٍ لن يفيد أحدًا”.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
** مؤرخ وكاتب صحفي بارز، ومؤلف كتاب سيصدر قريبًا عن تاريخ الإبادة الجماعية للأرمن.