توري ريفسلوند هامينغ، باحث أول في المركز الدولي لدراسة التطرف.
هل لا تزال هيئة تحرير الشام، الفرع السوري لتنظيم القاعدة الذي يُعرف باسم جبهة النصرة، تابعة لتنظيم القاعدة، أم أنها تدور في الفلك الأكبر لشبكة أيمن الظواهري؟ هل لا تزال تنفذ أعمالًا إرهابية أو تدعمها؟ وهل لا تزال في الواقع جماعة جهادية أم أنه من الأفضل اعتبارها جماعة ثورية سياسية تقاتل ضد نظام بشار الأسد في محافظة إدلب شمال سوريا؟
هذه بعض الأسئلة التي يحاول صانعو السياسات والمحللون والباحثون الإجابة عليها منذ أن أعلن زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني في يوليو 2016 حل جبهة النصرة.
قليلون هم الذين في وضع أفضل للإجابة عن هذه الأسئلة من آرون زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الذي ألّف كتيبًا ممتازًا بعنوان “عصر الجهادية السياسية: دراسة في هيئة تحرير الشام“.
لطالما كانت دراسة الجماعات الجهادية وتحليلها مشوبة بالكسل المنهجي والتبسيط التحليلي، خاصة عندما تتحول المناقشات إلى مسألة الأيديولوجيات. غير أن السمة المميّزة لكتابات زيلين هي أنه لا يستسلم أبدًا للروايات المبسّطة. بل يعكف على التوصل إلى تفسيرات عميقة ودقيقة، تستند إلى فحصٍ شامل للمصادر الأولية. وهذا الكتيب ليس استثناءً في ذلك.
يصيغ زيلين الأسئلة الأساسية التي يتناولها الكتيب كمناقشة للوضع الحالي لهيئة تحرير الشام، وإدراجها ككيان إرهابي مصنّف. ومع ذلك، ومن أجل تقديم إجابات شاملة، يقدم مراجعة وافية لتاريخ الجماعة، وتطورها التنظيمي والأيديولوجي، ويختتم بتوقعات لآفاقها المستقبلية.
إن الارتباك العام الذي يكتنف هيئة تحرير الشام، وولاءَها التنظيمي وقناعاتها الأيديولوجية، هو بالضبط السبب الذي يدعو إلى إجراء دراسةٍ شاملة، تغوص في الخطاب الفعلي للجماعة ونشاطها إذا أردنا تطوير سياسات سليمة للتعامل معها. خاصة وأن زيلين يبدأ الكتيب بالقول: “التحدي الذي تمثله هيئة تحرير الشام الآن مختلف وأكثر تعقيدًا عن التحدي الذي طرحته عندما كانت جزءًا من تنظيم داعش في العراق أو القاعدة”.
فيما يتعلق بمسألة ما إذا كان ينبغي أن تظل هيئة تحرير الشام مدرجة كمنظمة إرهابية، يخلص زيلين، استنادًا إلى خمسة معايير محددة لتصنيف الإرهاب بموجب المادة 219 من قانون الهجرة والجنسية، إلى أنه “من المنطقي أن تستمر واشنطن في تصنيف هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية أجنبية”. وفي حين أنه يتطرق بإيجاز إلى النظرية القائلة بأن الشطب من القائمة يمكن أن يكون بمثابة استراتيجية مثيرة للاهتمام لوضع سابقةٍ تشجع الجماعات الأخرى على النأي بنفسها عن الأيديولوجيات المتطرفة، فإنه كان بإمكانه مناقشة الفكرة بشكلٍ أكبر.
وتأكيدًا على مدى تعقيد تقييم هيئة تحرير الشام، فإن جزءًا كبيرًا من الكتيب هو اعتراف بأن هيئة تحرير الشام قد تغيّرت بالفعل على مدى نصف العقد الماضي أو نحو ذلك، سواء من حيث ولاؤها التنظيمي، أو سياساتها وأولوياتها المحلية، أو ثقافتها القيادية. وعلى هذا النحو، ينضم زيلين إلى التقليد الذي قام به علماء آخرون مثل جيروم دريفون، وباتريك هيني، الذين قاموا بعمل ميداني مبهر داخل الأراضي التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام.
إضافة إلى ذلك، فمن خلال الغوص في المصادر الأولية الصادرة عن هيئة تحرير الشام، وكبار قادتها وأبرز مؤيديها، يقدم زيلين سردًا مفصلًا لمدى تعقيد منظمة هيئة تحرير الشام حاليًا، ويحدد عملية التحول التي لا تزال مستمرة. ويشير إلى أن هيئة تحرير الشام، تستخدم في خطابها الموجّه إلى الجمهور الخارجي، لغة مقبولة لدى الغرب، حيث تنأى بنفسها عن المعتقدات والأفعال المتطرفة، وتصوِّر نفسها كحامية لسكان إدلب، ومقدمة خدمات لها. وعلى النقيض من ذلك، فإنها تتحدث، في خطابها الموجّه للجمهور المحلي، بنبرة مختلفة، مستخدمة لهجة متشددة ومتطرفة.
لكن على الرغم من هذا التناقض، يجادل زيلين بشكلٍ مقنع بأن هيئة تحرير الشام تمثل اتجاهًا أيديولوجيًا جديدًا ضمن المسار التاريخي للحركة الجهادية التي تفضل البرجماتية على الجمود اللاهوتي، وأنها أكثر انفتاحًا على الانخراط مع “الجهات الفاعلة الخارجية”. وبدلًا من السير على خطى منظماتها الأم السابقة، داعش ثم تنظيم القاعدة، فإنها ترى في طالبان وانتصارها في أفغانستان مصدرَ إلهام قوي لقيادة هيئة تحرير الشام. وفي هذا الصدد، يرى أن منطقة الساحل تشهد تطورًا مماثلًا، وإن كان أقل تشددًا، حيث يتبنى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، التابع لتنظيم القاعدة في المنطقة، ببطء، موقفًا أكثر اعتدالًا بشأن مسألة المفاوضات.
في حالة هيئة تحرير الشام، يرتكز التطور الأيديولوجي على مفهوم فقه الواقع، مفهوم لا يشتبك معه زيلين، ولكن ربما كان ينبغي عليه أن يناقشه، لشرح تحوّل هيئة تحرير الشام، ليس أقلها كيف يضفي الشرعية عليها داخل الوسط المتطرف شديد النقد. ففي خضم سياق سياسي وأمني واجتماعي متغيّر، تجادل هيئة تحرير الشام بأن منهجيتها أيضًا يجب أن تتغيّر وتتكيّف. وكل هذا، بالطبع، يضفي الشرعية عليها من خلال الإشارات إلى الدين كمرجعية لها.
النقطة التي يشرحها زيلين بشكلٍ جيد، هي تفكيكه للعلاقة بين هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ الوطني، الكيان الذي يحكم إدلب رسميًا، ويقدم نفسه على أنه مستقل، ولكنه يقع إلى حد كبير تحت سلطة هيئة تحرير الشام. وفي محاولة للظهور كمنظمة عسكرية تقاتل لحماية سكان إدلب من الوقوع تحت سيطرة نظام الأسد، فإن هيئة تحرير الشام هي في الواقع مسؤولة عن جميع جوانب الحكم في المنطقة. ومن خلال اتباع نهج يشبه الحكم الاستبدادي الكلاسيكي، تسعى هيئة تحرير الشام بالتالي إلى احتكار السلطة في مدينة إدلب وريفها، وعبر هذه العملية تُحكِم السيطرة والرقابة على الجماعات والمؤسسات العسكرية والسياسية الأخرى غير الحكومية.
أحد الإسهامات الكبيرة الأخرى التي يمكن استخلاصها من الكتيب هي قدرة زيلين على تجنب الاستسلام لمغالطة وصف هيئة تحرير الشام من خلال مفاهيم إقصائية؛ مثل السلفية-الجهادية والجهادية. ففي حين أن هيئة تحرير الشام قد تُصنف في بعض النواحي على أنها جماعة جهادية، فإنه لن يكون من المنطقي تعريفها على أنها سلفية-جهادية، كما أن مثل هذا التعريف من شأنه أن يتجاهل تمامًا التنوع الداخلي الموجود داخل الجماعة. لقد استطاع زيلين القيام بذلك بفضل اطلاعه القوي على المصادر الأولية، التي أتاحت له التقاط الفروق الدقيقة التي يسهل إهمالها.
بالعودة إلى مسألة تصنيف هيئة تحرير الشام ككيان إرهابي، يختتم زيلين الكتيب بسردٍ مفصّل للأفعال والعناصر التي تبرر في رأيه استمرار التصنيف. ويشمل ذلك، من بين أمورٍ أخرى، الخطاب الذي توجهه هيئة تحرير الشام إلى جمهورها المحلي وتاريخها من الانتهاكات الوحشية لحقوق الإنسان التي ترقى إلى جرائم حرب. ولعل أحد الجوانب التي ربما بالغ قليلًا في تقديرها، أو لم يناقشها بشكل كافٍ، هو التزام هيئة تحرير الشام التاريخي للجهاد العالمي، كما يُنظر إلى المفهوم بشكلٍ عام في الغرب.
وختامًا، يمكن القول إن قراءة كتيب زيلين لا تجعل القارئ يعرف كيف تحوّلت هيئة تحرير الشام كمجموعة فحسب، بل تجعله يفهم -بشكلٍ أفضل- كيف تتحول الأطراف الفاعلة المسلحة من غير الدول بمرور الوقت، حتى الإسلامويين المتشددين، الذين يدّعون أنهم يتبعون النص القرآني، حتى لا يقعوا ضحية للسياسة التقليدية.
وهذا الأمر ليس مثيرًا للاهتمام من منظورٍ بحثي فحسب، بل مهم للغاية في عملية تطوير سياسات مكافحة الإرهاب واستراتيجياتها.