دانيل ريكنابخر**
في عام 2016، حصل الصحفيان الفرنسيان؛ كريستيان شينو، وجورج مالبرونو، على وحدةِ تخزين بيانات خارجية تحتوي على آلاف الملفات التي توثِّق دعمَ مؤسسة “قطر الخيرية” لشبكةٍ دعوية على مستوى أوروبا تديرها جماعة الإخوان المسلمين. ورغم عدم الكشف قط عن هوية الأشخاص الذين أبلغوا عن هذه المخالفات، فإنه في ضوء الأزمة بين قطر ودول مجلس التعاون الخليجي العربية، يبدو أن مشاركة هذه الدول أمر محتمل. ولم يكن اختيار الصحفيين من قبيل المصادفة أيضًا، فقد قام شينو ومالبرونو بتأليف كتابين بالغيْ الأهمية عن قطر في عامي 2014 و2016. وفي السنواتِ الثلاث التي تلَت التسريبات، أجرى الصحفيان بحثًا متعمقًا عن مؤسسة قطر الخيرية، وتُوّج ذلك في كتابٍ وفيلمٍ وثائقي يسلِّطان الضوءَ على تدخل قطر في شؤون المسلمين في أوروبا(1).
قطر الخيرية والإخوان المسلمين
تقدِّم مؤسسةُ قطر الخيرية نفسها كمنظمةٍ غير حكومية مستقلة، ولكن البحث الذي أجراه الصحفيان الفرنسيان، يكشف أن لديها علاقات متشابكة وقوية مع الحكومة القطرية، وأنها تعمل على النهوضِ بأجندتها في الخارج. فالسياسةُ الخارجية لدولةِ قطر مدفوعة بالأيديولوجيا -المتمثلة في دعمها القوي للإسلام السياسي- والمنافسة مع القوى الإقليمية على النفوذ. في هذا الصدد، دخلت قطر في علاقةٍ تكافلية مع جماعة الإخوان المسلمين، تعود إلى عقود عدة، إلى الفترة ما بين منتصف الخمسينيات ومنتصف الستينيات، عندما فرَّت شخصياتٌ من جماعة الإخوان المسلمين؛ مثل عبد البديع صقر، ويوسف القرضاوي من مصر، إلى الإمارةِ الخليجية، وتسللت إلى البيروقراطية، ونظام التعليم. وفي حين أن قطر تدعم جماعة الإخوان المسلمين في الخارج من خلال التمويل والدعاية -عبر شبكة قنوات الجزيرة الإعلامية- فإنها حريصة على لجم قوة جماعة الإخوان المسلمين داخل حدودها(2).
ورغم أن مؤسسة قطر الخيرية تنشط على الصعيد العالمي، فإن تركيزها الأساسي ينصبّ على الدول الغربية حيث أطلقت برنامجًا تبشيريًا يسمي “الغيث”، وتضخ أموالًا هائلة في هذه الجهود الدعوية في أوروبا. واعتبارًا من عام 2014، استثمرت قطر قرابة 72 مليون يورو في 113 مشروعًا في أوروبا. وبعد عامين، ادَّعى صلاح الحمادي، المدير التنفيذي للمؤسسة، أن “مؤسسة قطر الخيرية أنشأت 138 مركزًا إسلاميًا في أوروبا وكندا وأمريكا تعمل على التعريف بالحضارة الإسلامية، وتشجيع الحوار بين مختلف الشعوب والحفاظ على هوية الجاليات المسلمة”(3).
يبدو أن جماعة الإخوان المسلمين وشبكتها من الجمعيات والمساجد والمراكز الثقافية هي أحد المستفيدين الرئيسيين من هذا الاستثمار. ومن بين الجهات الأخرى التي تلقت أموالًا من المؤسسة، المنظمات غير الحكومية الإسلامية المحافظة؛ مثل “اتحاد المسلمين الأوروبيين” -الذي يتعهد بنشر الحجاب ويزعم أنه يكافح الإسلاموفوبيا- ونشطاء مثل طارق رمضان.
كانت شبكةُ الإخوان المسلمين في أوروبا في طور الإعداد منذ أواخر الخمسينيات، ولطالما شكَّلت الأموال الأجنبية أحد العوامل الدافعة لتوسعها، وفي السنواتِ الأخيرة أصبحت قطر الراعيَ الرئيسَ لها. ولكن ما هو الهدف من هذه الشبكة؟ العديد من المشاريع التي تموِّلها قطر هي مشاريع ضخمة مثل المسجد الكبير في ميلوز الذي يضم منشآتٍ دينية وثقافية وتجارية ورياضية. وهذا دفع النقاد لاتهام جماعة الإخوان المسلمين بالعمل على إقامة مجتمع موازٍ يفصل المسلمين عن المجتمع الأوسع. ومع ذلك، يرى الصحفيون الفرنسيون أن جماعة الإخوان المسلمين تدفع باتجاه أجندة أوسع من ذلك بكثير.
استعادة الأراضي الإسلامية؟
في وثائق التخطيط الداخلي، والبيانات العامة الصادرة باللغة العربية، يتحدث أعضاء جماعة الإخوان بصراحة عن أهدافهم الطويلة الأجل المتمثلة في استعادة “الأراضي المفقودة” في أوروبا -مثل صقلية أو الأندلس- واستعادة مناطق أخرى لتحقيق هدفهم طويل الأجل المتمثل في إقامة دولة إسلامية. يمكن العثور على هذه الرؤية المتعلقة باستعادة الأراضي الإسلامية، على سبيل المثال، في خطابات يوسف القرضاوي، الزعيم الروحي للجماعة.
ومع ذلك، فقد أكد في ذلك الوقت أن الإسلام سيسعى إلى غزو أوروبا ليس بالسيف بل من خلال الدعوة. وفي سبيل ذلك، أعد القرضاوي إطارًا قانونيًا لتبرير أجندة الدعوة هذه. وفقًا للأدبيات الإسلامية التقليدية، تنتمي أراضي غير المسلمين إلى ما يطلق عليه “دار الحرب” التي يجب فتحها لتصبح جزءًا من “دار الإسلام”. لكن القرضاوي أضاف فئة ثالثة، معلنًا أن أوروبا هي “دار الدعوة”، مقتبسًا من نبوءات المسلمين التي تتحدث عن غزو روما كمبرر لجهوده الدعوية هذه.
ويبدو أن مؤسسة قطر الخيرية تؤيد هذه الرؤية لاستعادة الأراضي الإسلامية المفقودة، أو على الأقل، تستفيد منها لأغراضٍ ترويجية. وهكذا، عندما موّلَتِ المؤسسةُ المسجدَ الكبير في مدينة بواتييه الفرنسية، استخدمت اسمًا مختلفًا في وثائقها الداخلية. أطلقت على المسجد اسم “شارع الشهداء” في إشارة إلى استشهاد القائد العسكري المسلم عبد الرحمن [الغافقي] وأتباعه، الذين استشهدوا هناك خلال المعركة الشهيرة بين القوات المسيحية الفرنسية والقوات المسلمة في القرن الثامن. وفي مقطع فيديو ترويجي، الذي يظهر في الفيلم الوثائقي، يقول رئيس المركز إنه أراد “أن يكون هذا المركز الإسلامي رمزًا لغزو أوروبا بوسائل مختلفة. نريد أن يكون هذا المركز نقطة انطلاق لانتشار الإسلام والحوار”. ومن غير المستغرب أن يكون المركزُ موضوع نقاشٍ عام في فرنسا منذ أن ظهرت هذه التصريحات إلى النور. ولا يقتصر هذا الخطاب الهجومي والتوسعي على فرنسا فحسب، في ظلِّ أن هناك العديد من مشاريع قطر الخيرية في صقلية، التي كانت إمارة إسلامية من القرن التاسع إلى الحادي عشر. وتزخر المواد الترويجية لقطر الخيرية باللغة العربية، التي تعلن عن مشاريعها في صقلية، بالإشارات إلى الماضي الإسلامي لصقلية، مما يدفع المتشككين إلى الاعتقاد بأن المنظمة تسعى إلى تحقيق أجندتها الرامية لاستعادة الأراضي الإسلامية المفقودة.
استراتيجية إقليمية
يقدم الكتاب أيضًا قائمة مفصلة بإنفاق مؤسسة قطر الخيرية في أوروبا، مع إعطاء فكرة غير مسبوقة على نطاق استثماراتها واستراتيجيتها الإقليمية. اللافت للنظر أنه رغم قلة عدد السكان المسلمين نسبيًا في إيطاليا، استثمرت قطر الخيرية أموالًا فيها أكثر من أي دولة أوروبية أخرى، حث استثمرت أكثر من 22 مليون يورو في عام 2014، ما يعادل 150% من المبلغ الذي أنفقته في فرنسا، التي تأتي في المرتبة الثانية، والتي يوجد بها عدد أكبر من السكان المسلمين. في وقت نشر الكتاب، موَّلَت قطر الخيرية بناء 47 مسجدًا في إيطاليا. ولكن ما هي بالضبط أسباب هذه الاستثمارات الكبيرة؟ إلى جانب الرؤية المتعلقة باستعادة الأراضي الإسلامية التي نوقشت أعلاه، ربما ترى مؤسسة قطر الخيرية وشركاؤها أنه في ظل الصعوبات التي تواجهها أوروبا في السيطرة على حدودها الجنوبية، ستزداد نسبة المهاجرين المسلمين في إيطاليا زيادة حادة في السنوات المقبلة. ومن ثم، قد يصبح هؤلاء المهاجرون الجدد مستفيدين من البرامج الدعوية للمؤسسة القطرية.
علاوة على ذلك، ضخَّت مؤسسة قطر الخيرية استثماراتٍ كبيرة في إسبانيا، التي تأتي في المرتبة الثالثة من حيث حجم تلك الاستثمارات. ورغم أن المؤلفين لا يناقشان أنشطةَ المؤسسة في إسبانيا، تجدر الإشارة إلى أن إسبانيا تتقاسم أوجه تشابه عدة مع إيطاليا. ذلك أن عدد سكانها من المسلمين صغير نسبيًا، وتتعرض أراضيها لتدفقات اللاجئين وتضم مناطق كثيرة كانت تخضع لسيطرة المسلمين لقرون عدة. وربما يشير هذا إلى أن المؤسسة القطرية تعكف بالفعل على ما يمكن وصفه بأنه استراتيجية جنوبية، مع التركيز على دول البحر المتوسط الأوروبية التي يمكن توقع تغير تركيبتها السكانية بشكل كبير في العقود القادمة.
لكن الوضع في شمال أوروبا مختلف عما رأيناه في جنوبها. ففي ألمانيا، استثمرتِ المؤسسةُ قرابة 5 ملايين يورو في ثلاثة مشاريع بحلول عام 2014، مما يضع ألمانيا في المرتبة الرابعة في أوروبا من حيث استثمارات المؤسسة، فيما تأتي المملكة المتحدة في المرتبة الخامسة. بالنظر إلى ما سبق، كيف يمكن تفسير التدخل القطري الطفيف نسبيًا في هذه الدول مقارنة بالدول السابقة؟
على عكس فرنسا وجنوب أوروبا، فإن غالبية السكان المسلمين في ألمانيا والمملكة المتحدة لا ينحدرون من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. على سبيل المثال، غالبية المسلمين الألمان هم من أصول تركية، ونتيجة لذلك، سيطرت جماعات إسلامية تركية مثل رئاسة الشؤون الدينية التركية (Diyanet) أو “الرؤية الوطنية” (Milli Görüs) على المشهد الإسلامي المحلي لفترة طويلة. هذه الجماعات الإسلامية التركية موالية لنظام أردوغان، الحليف الرئيس لقطر في المنطقة. وهكذا، يمكن القول إن قطر تعتمد على الشبكات الإسلامية التركية لتعزيز أجندتها في ألمانيا. ومع ذلك، يعتقد المؤلفان أن هناك مؤشرات تدل على انخراط قطري أقوى في ألمانيا منذ عام 2017، أي منذ بداية الأزمة مع جيرانها. وهذا يتزامن مع تقييمات من الاستخبارات الألمانية الداخلية التي تفيد بأن جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت موجودة في ألمانيا منذ أواخر الخمسينيات، تكثِّف أنشطتها. وقد يمثل التدفق الواسع النطاق للمهاجرين من الشرق الأوسط منذ عام 2013 فرصة فريدة للأجندة الدعوية لجماعة الإخوان المسلمين ومؤسسة قطر الخيرية.
وتجدر الإشارة إلى أن مؤسسة قطر الخيرية استثمرت أكثر من 3.6 مليون يورو في سويسرا بحلول عام 2014، وهو مبلغ غير متناسب في ظلِّ أن عددَ السكان المسلمين القليل في سويسرا -والذين تعود أصول أغلبيتهم إلى البلقان- قد أثبتوا أنهم أقل تجاوبًا مع النسخة العربية من الإسلام السياسي التي تروج لها جماعة الإخوان المسلمين. ومع ذلك، فإن سويسرا كانت موطنًا لأسرة طارق رمضان منذ أواخر الخمسينيات، ومن غير المستغرب أن يكون ابنا سعيد، رمضان طارق رمضان، وشقيقه هاني رمضان، الأعضاء في “رابطة المسلمين في سويسرا”، من المستفيدين من المال القطري.
وفي حين أن الصحفيين لا يقدِّمان أي دليل يشير إلى أن مؤسسة قطر الخيرية متورطة بشكل مباشر في تمويل الإرهاب، فإنه يُشتبه في تورط العديد من الأشخاص والمنظمات -التي تُشكِّل جزءًا من الشبكة الدعوية التي تقودها جماعة الإخوان في أوروبا- في تقديم المساعدة للمنظمات الإرهابية. ومن ثم، اتهمت وزارةُ الخزانة الأمريكية العديدَ من المنظمات الفرنسية والسويسرية، ذات الصلة بالإخوان، بأنها جزءٌ من “ائتلاف الخير”، وهي شبكة تقدِّم تمويلاتٍ لحركة حماس. ولا تزال هذه الأخيرة تحظى بدعمٍ من قطر وتركيا. وتشيرُ تقارير الاستخبارات الفرنسية التي حصل عليها الصحفيان، إلى أن أحمد الحمادي -الذي يشرف على برنامج “غيث”- لديه أيضًا سجلٌ من التطرف الإسلامي، حيث يشتبه الفرنسيون في أنه دعم الإرهابيين في الشيشان والبلقان. علاوة على ذلك، من المعروف أن قطر دعَّمَتِ العديدَ من الجماعات الإسلامية التي تشارك في الحرب الأهلية السورية. وفي هذا الصدد، وصف هيثم مناع، أحد ممثلي المعارضة السورية الديمقراطية، كيف عرض مبعوث قطري في وقت مبكر من الانتفاضة أن يزوده بالأسلحة.
الخلاصة
يوضح البحث الذي قام به شينو ومالبرونو كيف أصبحتِ الشؤون الدينية للمسلمين في أوروبا ساحة للتنافس بين الدول. وفي هذا الصدد، تقدِّم تركيا وقطر في بعض الأحيان دعمًا حاسمًا لمؤسساتٍ على صلة بجماعة الإخوان المسلمين. ومن الملاحظ أن أجندتها العامة -تحصين المسلمين الأوروبيين من النفوذ الغربي، والدعوة لتبني النسخة الأصولية من الإسلام التي تتبناها جماعة الإخوان المسلمين- تتعارض مع أهداف الدول الأوروبية التي تسعى إلى تعزيز اندماج الجاليات المسلمة في المجتمعات الأوروبية. كما أن الخطاب الذي يهدف لاستعادة الأراضي الإسلامية الذي تستخدمه مؤسسة قطر الخيرية والجهات المستفيدة منها مُلَغَّم بشكلٍ خاص، ويهدد التماسك الاجتماعي.
ونتيجة للأزمة المستمرة بين قطر ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وحلفائه، قلَّصَت مؤسسة قطر الخيرية على ما يبدو أنشطتها في أوروبا منذ عام 2017. ومع ذلك، فإن الاعتقاد بأن ظاهرة التدخل الأجنبي في شؤون المسلمين في أوروبا، في ظلّ تنافس الجهات الفاعلة المختلفة على النفوذ على السكان المسلمين المحليين، قد انتهت سيكون من قبيل قصر النظر.
وختامًا، فلقد تأخرتِ الحكوماتُ الأوروبية في التعامل أو حتى الاعتراف بوجود برامج الدعوة المنسقة التي تتم برعايةِ بعض الدول. بل إنها كثيرًا ما دَعَت جهاتٍ أجنبية، مثل تركيا، إلى تقديم التعليم الديني لمواطنيها المسلمين. وبهذا، تخاطرُ الحكومات الأوروبية بأن تصبح متفرجًا سلبيًا على ما يدور في شؤون المسلمين على أراضيها. ومع ذلك، فهناك مطالباتٌ متنامية بضرورة كبح جماح النشاط الإسلامي في أوروبا، ومن المتوقع أن تنتشر في المستقبل القريب قوانين مثل الحظر الذي تفرضه النمسا على التمويل الأجنبي للمؤسسات الدينية.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
**باحث في معهد الدراسات اليهودية الكندية في جامعة كونكورديا في مونتريال، كندا.
1) Christian Chesnot and Georges Malbrunot, Qatar papers : Comment l’émirat finance l’islam de France et d’Europe, September 24, 2019.
2) David B. Roberts, Qatar and the Brotherhood, Survival, July 4, 2014, https://doi.org/10.1080/00396338.2014.941557
3) Salah Al Hammadi, Editorial, Ghiras, June 2016.