شهدتِ السنوات الأخيرة تصاعدًا في نشاط وهجمات الحركات اليمينية المتطرفة، فمن هجوم كرايستشيرش إلى إل باسو وهاله، أصبح العنفُ اليميني المتطرف يتصدر مؤقتًا العناوين الرئيسة المرتبطة بالإرهاب في الدول الغربية1. في الواقع، في عام 2018، كانت كلُّ جريمة قتل متطرفة في الولايات المتحدة مرتبطةً بشكل أو بآخر بأيديولوجيا يمينية2، ومن ثم فإن الحكمة القديمة بأن الهجمات الجهادية تسبِّب خسائر أكثر من التطرف اليميني قد لا تكون دائمًا صحيحة بعد الآن. وفي أستراليا أيضًا، ازداد التطرف اليميني، ما أثار تحذيرات من أن ثمة هجومًا “محتملًا”3 في المستقبل القريب. وفي حين أن العنف والمواقف العنصرية والمتطرفة والمعادية للسامية أو الإسلاموفوبيا للجناة تُناقش في كثير من الأحيان بانتظام في الخطاب الشعبي، لا تقتصر المنظمات اليمينية المتطرفة على كونها بيئات تغذِّي الكراهية والغضب الأعمى. ذلك أن بيئة الجماعات اليمينية المتطرفة بنَت ثقافتها ورواياتها الخاصةَ، و”مخيِّلَاتها الثقافية”4، فضلًا عن رمزية محددة متشابكة مع هذه المخيَّلات. هذه المخيِّلات الثقافية تخدم أغراضًا مختلفة، بما في ذلك إمكانية تسهيل عمليات التطرف.
تُظهر العديد من رموز التطرف اليميني ارتباطًا واضحًا بالفاشية، وأيديولوجيا هتلر القومية الاشتراكية، وتاريخ ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. تشمل هذه، على سبيل المثال، رقمي 88 و18، في إشارة إلى حرفي HH (هايل هتلر) وAH (أدولف هتلر) على التوالي، والصليب المعقوف، والجمجمة التي ترمز إلى شوتزشتافل (القوات الخاصة) أو الصليب السلتي، وهو رمز غالبًا ما يُستخدم من قبل الحركات التي تؤمن بتفوق البيض5. الجدير بالذكر أن معظم الرموز، إن لم يكن كلها -التي تشير بشكل واضح إلى ألمانيا النازية- غير قانونية في ألمانيا اليوم، ولكن ليس في جميع الدول. وفي الواقع، فلا تكتفي الجماعاتُ اليمينية المتطرفة في كثيرٍ من الأحيان باستخدام الرموز النازية فحسب، بل تختار أسماء ألمانية لجماعاتها، مثل “Atomwaffen Division” (جماعة الأسلحة النووية) في الولايات المتحدة أو نظيرتها في المملكة المتحدة “Sonnenkrieg” (التي تعني حرفيًا جماعة حرب الشمس)6، واضعة نفسها ضمن التقليد الرمزي والحرفي للاشتراكية القومية.
اعتماد الرموز التي تتغلغل في الخطاب السائد
رغم ما سبق، فلا يمكن التعرف بسهولة على جميع المتطرفين اليمينيين المعاصرين، من خلال الاستعراض العلني للرموز النازية الجديدة. على سبيل المثال، قام المتطرفون اليمينيون باختطافِ العديد من الحروف الهجائية الجرمانية (الحروف القديمة) وأصبحوا يستعرضونها بدلًا من الصلبان المعقوفة، وجماجم شوتزشتافل.
وتشمل هذه حرف “تير”Tyr أو حرف “أودال” Odal، اللذين يشيران إلى الدم والتراب (الأرض). كما تُستخدم الشمس السوداء كبديل للصليب المعقوف غير القانوني، وغالبًا ما تُطبع على القمصان وغيرها من الأشياء لأنه يمكن ارتداؤها علنًا حتى في ألمانيا7.
في الدول الاسكندنافية، وخاصة في السويد، غالبًا ما تتضمن الرموز التي يستخدمها المتطرفون اليمينيون الرموز الخاصة بـ”الفايكنج” مثل “مطرقة ثور” (Thor’s hammer)، التي تشير إلى العرق القوي والبطولي لدول الشمال الأوروبي الذي يزعم أن المتطرفين يسعون إلى حمايته.
ما يزيد الأمور تعقيدًا ويجعل الاكتشاف أكثر صعوبة، تنوع المشهد اليميني المتطرف، فليست كل الجماعات حريصة على استعراض حتى الحروف الجرمانية. في كثيرٍ من الأحيان، نجدهم أكثر حذرًا ويسعون إلى تحريك “نافذة أوفرتون” والخطاب العام ببطء نحو قبول المعتقدات اليمينية، وعدم تنفير المؤيدين المحتملين من خلال استعراض رموز تربطهم بوضوح بأيديولوجية هتلر الفاشية مثل الصليب المعقوف8. وقد طورت صناعة الأزياء ملابس عصرية ذات رموز عنصرية ويمينية سرية على قمصانهم وستراتهم9. حتى أن المتطرفين اليمينيين يختطفون رموزًا لم تكن مرتبطة في السابق بأي أيديولوجية مثل إشارة (OK)، التي أضيفت مؤخرًا إلى كتالوج رموز الكراهية بعد أن عدَّلها المتصيدون اليمينيون على الإنترنت لأغراضهم10. وبالتالي، أصبح من الصعب بشكل متزايد تحديد المتطرفين اليمينيين عن طريق الرموز لأنه يجري تغييرها وتعديلها باستمرار. وقد أعدت “رابطة مكافحة التشهير” قاعدة بيانات لرموز الكراهية لمواكبة التطور النشط للقضية11.
علاوة على ذلك، يتضح تكييف الرموز بشكلٍ واضح في الفضاء الإلكتروني، مثل ما يسمى ببيئة “ثقافة تشان”12. ووفقًا لنظرية جرامشي للتغيير (نسبة إلى الفيلسوف الإيطالي أنطونيو جرامشي)، التي تقول بأنه يجب تغيير الثقافة قبل أن يمكن تكييف السياسة، يستغل المتطرفون اليمينيون المعاصرون “الميمات”، والفكاهة، و”التصيّد” واختطاف الرموز بحيث لا يظهرون علنًا الانتماءات اليمينية المتطرفة، ومن ثم يطمسون الحدود الفاصلة بين خطابهم الخاص والخطاب السائد، وبالتالي يتمكنون من التأثير على المجتمع بأسره، مع الاحتفاظ بفوائد الرموز كعلامات للهوية للثقافات الفرعية وكعناصر تسهل الانتماء للأعضاء.
وبصفة عامة، تستخدم الرموز كعلامات مرئية للانتماء والهوية بطريقة مماثلة للقمصان التي يتم ارتداؤها للدلالة على دعم فريق رياضي محدد. وهي تمثيل مرئي لعضوية المجموعة المغلقة، وفي الوقت نفسه، تمثل انفصالًا عن المجتمع الأوسع والمجموعات الخارجية داخل المجتمع. ومن ثم، لا يحتاج المرء اليوم لرسم وشم الصليب المعقوف على جسده أو ارتداء سترة جلدية عليها جمجمة لإظهار الدعم للتطرف اليميني، ولكن أضحى بإمكانه استخدام المزيد من الرموز “الخفيفة” مثل رمز (Ok) أو “Pepe the frog”، ما يجعل المشاركةَ والشعور بأنه جزء من الجماعات المتطرفة أسهلَ اليومَ، مما كان عليه في السابق. وهكذا، يمكن دعم عمليات التطرف عبر الانتقال دون وعي من التصيّد إلى الرموز التي اختطفها المتطرفون اليمينيون، إلى مشاركة ميمياتهم، والتحول إلى جزء من الوسط اليميني المتطرف. يأتي هذا في ظلِّ حقيقة أن المشهد اليميني المتطرف متنوع جدًا ويتداخل مع ثقافات فرعية أخرى مثل حركة “Incel”، أي العزوبة غير الطوعية أو إنسيل13، ما يجعل من السهل مرة أخرى الانضمام إلى النهج “الأكثر ليونة” للأيديولوجيا اليمينية المتطرفة بدلًا من الاضطرار إلى إظهار رموز عنصرية بشكل واضح منذ البداية.
المخيِّلات الثقافية
بغية تسهيل عمليات التطرف، لا يكفي نشر الأيديولوجيا اليمينية وإظهار الرموز التي تدل على الانتماء. ذلك أن البشر يعتمدون على السرديات لبناء الواقع، نحن بحاجة إلى قصة قابلة للتصديق تقول لنا لماذا العالم على هذا النحو وليس العكس14. هنا يأتي دور المخيِّلات الثقافية. والمخيلات الثقافية هي روايات وممارسات اجتماعية ليست ذات طابع سياسي صريح، ولكنها مع ذلك وسيلة لخلق رؤية مشتركة وتصور للماضي، والحاضر، والمستقبل الطوباوي15.
على سبيل المثال، طوّرت الجماعات اليمينية المتطرفة في ألمانيا بيئة ثقافية خيالية حول التنوع البيولوجي وحماية البيئة -موضوع يطالب به حزب الخُضر تقليديًا- من خلال بناء إطار أيديولوجي يُصور حماية البيئة كاهتمام تقليدي للمتطرفين اليمينيين. إنها صورة خيالية لأمة نقية ذات مناظر طبيعية جميلة لم يمسها “الغزو الأجنبي” (في إشارة إلى كل من الأجانب والأجناس الأجنبية) قادرة على الحفاظ على احتياجات Volksgemeinschaft (المجتمع الألماني الوطني الموحد) ودعمه، التي يشير إليها شعار “Umweltschutz ist Heimatschutz” (حماية البيئة هي حماية الوطن)16.
الدول الاسكندنافية، خاصة السويد، لها مكانة مميزة في المخيِّلات الثقافية لليمين المعاصر. فمن ناحية، يتم الإشارة إلى السويد باعتبارها “المدينة الفاسدة” أو “ديستوبيا”. وتزعم هذه السردية أنه نظرًا لأن السويد قد استضافت العديد من المهاجرين واللاجئين، فقد أصبحت منطقة خطرة حيث جرائم العنف في ازدياد مستمر. باختصار، السويد تسير بسرعة نحو الأسلمة. يشترك في هذا الخيال السلبي مجموعة متنوعة من الجهات اليمينية الفاعلة، بما في ذلك من المملكة المتحدة والمجر، وهي نقطة مرجعية مشتركة لما يحاربه المتطرفون اليمينيون17. من ناحية أخرى، تُستخدم السويد، وخاصة تراث الفايكنج، كمخيِّلة ثقافية إيجابية للنقاء، والمقاتلين الأبطال، ومثال للذكورة المهيمنة18.
السردية المصاحبةُ لهذه المخيِّلة تعبر عن توقٍ حزين لماضٍ مثالي قد يكون أو لا يكون موجودًا حقًا، ولكنه مع ذلك يرمز لرغبة وحنين إلى النظام “السليم” للمجتمع. ومع ذلك، حتى المخيِّلات الثقافية التي تلمح إلى ماضٍ مثالي يتم تحديثها من قبل المتطرفين اليمينيين اليوم. فعلى سبيل المثال، الأيديولوجيا النازية التقليدية تصّور المرأة فقط في دور الأم، وأنها تقوم بواجبها بإنجاب الأطفال. أما الأيديولوجيا اليمينية المعاصرة، فتنطوي على المزيد من المساواة بين الجنسين، وتصور النساء كمقاتلات يرتدين الأقنعة، وصور رومانسية للحب بين الشباب الأعضاء في هذه الحركات، ما يقربها من ثقافة الشباب، واستخدام صور مقبولة للجمهور الأوسع19.
الخاتمة
إجمالًا، يمكن القول إن كلًّا من الرموز والمخيِّلات الثقافية تسهل عمليات التطرف عبر الانخراط في الجماعات اليمينية المتطرفة من خلال زيادة التماهي مع “المجموعة المغلقة”، وبناء تصور مشترك لما يبدو عليه الواقع وينبغي أن يكون عليه. الرموز هي علامات هوية صريحة ويمكن أن تساعد في تسهيل الشعور بالانتماء و”الحميمية” لأولئك الذين يستخدمونها. ويمكن أن يكون التماهي عبر الإنترنت واللغة والصورة، مع ثقافةٍ فرعية ما، عاملًا مهمًا في بناء “مجتمعات متخيلة” افتراضية. وللمخيِّلات الثقافية آثار مماثلة على مستوى الإدراك الفوقي. فهي تنقل قضايا مهمة راسخة في الاعتبارات السياسية البحتة، ولكنها متميزة عنها، وتساعد على تطوير ثقافات عامة وثقافات فرعية يمينية شاملة. ورغم أن استخدام الرموز والمخيِّلات الثقافية وحدها لا يكفي لإحداث التطرف، فبإمكانها تسهيل الانخراط في الثقافة اليمينية المتطرفة، والتماهي معها، وجعل هذه المنظمات أكثر قبولًا لدى جمهور أوسع من الأعضاء المحتملين، بل وربما تجعلها أكثر جاذبية عن العنصرية الأكثر “خشونة”، والمكونات اليمينية المتطرفة التي تربطهم مباشرة بالاشتراكية القومية التي تعود للقرن الماضي.
*يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
**مستشارة في مكافحة الإرهاب في مؤسسة كونراد أديناور ببرلين
المراجع:
[1] Ayyadi, K., The “gamification” of terror – when hate becomes a game, 2019. Retrieved from: https://www.belltower.news/anti-semitic-attack-in-halle-the-gamification-of-terror-when-hate-becomes-a-game-92439/
Evans, R., The El Paso Shooting and the Gamification of Terror, 2019. Retrieved from: https://www.bellingcat.com/news/americas/2019/08/04/the-el-paso-shooting-and-the-gamification-of-terror/
Macklin, G., The Christchurch Attacks: Livestream Terror in the Viral Video Age, 2019. Retrieved from: https://ctc.usma.edu/christchurch-attacks-livestream-terror-viral-video-age/
[2] ADL, Right-Wing Extremism Linked to Every 2018 Extremist Murder in the U.S., ADL Finds. Retrieved from: https://www.adl.org/news/press-releases/right-wing-extremism-linked-to-every-2018-extremist-murder-in-the-us-adl-finds
[3] Doherty, B., Asio boss warns of rising foreign interference and far-right extremism in Australia, 2020 Retrieved from: https://www.theguardian.com/australia-news/2020/feb/24/rightwing-extremism-a-real-and-growing-threat-asio-chief-says-in-annual-assessment
[4] Kolvraa, C. and Forchtner, B., Cultural imaginaries of the extreme right: an introduction, Patterns of Prejudice, Vol. 53 (3), pp. 227-235, 2019
[5] Ayyadi, K., Die Symbole und Codes der neonazistischen Szene, 2019. Retrieved from: https://www.belltower.news/neonazis-erkennen-die-symbole-und-codes-der-rechtsextremen-szene-90089/
[6] Connor, R., What is the Atomwaffen Division?, 2019. Retrieved from: https://www.dw.com/en/what-is-the-atomwaffen-division/a-51106179
Grierson, J., UK to ban neo-Nazi Sonnenkrieg Division as a terrorist group, 2020. Retrieved from: https://www.theguardian.com/uk-news/2020/feb/24/uk-ban-neo-nazi-sonnenkrieg-division-terrorist-group
[7] Ayyadi, K., Die Symbole und Codes der neonazistischen Szene, 2019. Retrieved from: https://www.belltower.news/neonazis-erkennen-die-symbole-und-codes-der-rechtsextremen-szene-90089/
[8] Ebner, J., Radikalisierungsmaschinen: Wie Extremisten die neuen Technologien nutzen und uns manipulieren, Suhrkamp Nova: Berlin, 2019.
[9] Colborne, M., The Far Right’s Secret Weapon: Fascist Fashion, 2019. Retrieved from: https://newrepublic.com/article/153161/far-rights-secret-weapon-fascist-fashion
[10] Noor, P., How the alt-right co-opted the OK hand sign to fool the media, 2019. Retrieved from: https://www.theguardian.com/world/2019/oct/03/ok-sign-gesture-emoji-rightwing-alt-right
[11] ADL, Hate Symbol Database. Retrieved from: https://www.adl.org/hate-symbols
[12] Nagle, A., Kill all Normies: Online culture wars from 4chan and Tumbrl to Trump and the alt-right, Zero Books: Hants, 2017.
[13] DiBranco, A., Male Supremacist Terrorism as a Rising Threat, 2020. Retrieved from: https://icct.nl/publication/male-supremacist-terrorism-as-a-rising-threat/
[14] Cobley, P. Narrative. Routledge: Oxon, 2014.
[15] Kolvraa, C. and Forchtner, B., Cultural imaginaries of the extreme right: an introduction, Patterns of Prejudice, Vol. 53 (3), pp. 227-235, 2019.
[16] Forchtner, B., Nation, nature, purity: extreme-right biodiversity in Germany, Patterns of Prejudice. Vol. 53 (3), pp. 285-301, 2019.
[17] Thorleifsson, C., The Swedish dystopia: violent imaginaries of the radical right, Patterns of Prejudice, Vol. 53 (5), pp. 515-533, 2019.
[18] Kolvraa, C., Embodying ‘the Nordic race’: imaginaries of Viking heritage in the online communications of the Nordic Resistance Movement, Patterns of Prejudice, Vol. 53 (3), pp. 270-284, 2019.
[19] Forchtner, B. and Kolvraa, C., Extreme right images of radical authenticity: Multimodal aesthetics of history, nature, and gender roles in social media, European Journal of Cultural and Political Sociology, Vol. 4 (3), pp. 252-281, 2017.