في أعقاب الربيع العربي، فتح سقوط الحكومة التونسية الطريقَ أمام حزب النهضة؛ الفرع المحلي لجماعة الإخوان المسلمين، لتولي السلطة. وبعد عقدٍ من الهيمنة على الدولة، أُجبر حزب النهضة على التخلي عن السلطة في صيف عام 2021 ومنذ ذلك الحين بدأ يتفكك سياسيًا.
في الآونةِ الأخيرة، ظهرت صعوباتٌ أخرى أمام حزب النهضة مع بدء السلطات المؤقتة التحقيق في جرائم الحزب خلال فترة توليه السلطة. تأتي المتاعب التي يواجهها حزب النهضة وسطَ تراجع حظوظ الجماعات الإسلاموية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
لدراسة هذه الديناميات المحلية والإقليمية، عقد موقع “عين أوروبية على التطرف” ندوته التاسعة الافتراضية، والتي ضمَّت فريقًا متميزًا من الخبراء:
محمد هنيدي: خبير في مكافحة التطرف العنيف، والمدير المؤسس لشبكة تحليل مراقبة المتطرفين (EMAN)، شبكة غير ربحية تكشف خطاب الكراهية، والخطاب المتطرف، بهدف الحد من التطرف الديني والأيديولوجي بأشكاله كافة.
خديجة معلا: اختصاصية في التنمية لديها خبرة 25 عامًا، منها عشرة أعوام في مناصب قيادية عليا في الأمم المتحدة، وقدَّمت دورات تدريبية وتعليمية في عشرات الدول. كما أنها خبيرة في القانون الدولي، تتركز اهتماماتها على قضايا المساواة بين الجنسين، وسيادة القانون، والمجتمع المدني.
حسين إبيش: باحث أول مقيم في معهد دول الخليج العربي في واشنطن، ويكتب بصورةٍ منتظمة في وسائل الإعلام، وكاتب عمود أسبوعي في “بلومبيرج” و”ذا ناشونال” (الإمارات العربية المتحدة). أحدث كتب إبيش هو “ما الخطأ في أجندة الدولة الواحدة؟ لماذا لا يزال إنهاء الاحتلال وإحلال السلام مع إسرائيل هو الهدف الوطني الفلسطيني” الصادر في عام 2009.
سقوط جماعة الإخوان في تونس
استهل محمد هنيدي حديثه بالإشارة إلى أن حزب النهضة أصبح “المؤسسة الإسلاموية” في تونس بعد ثورة 2011. غير أنه فشل في تنفيذ الإصلاحات اللازمة، وكان زعيمه الروحي راشد الغنوشي “أكثر اهتمامًا بتعزيز حكمه، عن تحسين حياة التونسيين”. وكان يجري تشجيع الغنوشي على الترشح للبرلمان، وبالتالي رئاسة الوزراء، الأمر الذي ربما دفع الرئيس الحالي قيس سعيِّد إلى التدخل، وإقالة حكومة النهضة في صيف عام 2021.
من جانبها، تضيف معلا، أن الإخوان يستغلون العلل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الدول، ومع ارتفاع معدلات البطالة، وغيرها من المشكلات في تونس، تمكنوا من استخدام “استراتيجية الرعاية الاجتماعية والسرد الأيديولوجي” لتقديم أنفسهم كحلٍّ بديل. طوال ذلك الوقت كانت هناك مقاومة قوية في تونس لبعض التحركات الأكثر عدوانية التي قام بها حزب النهضة، لا سيّما ضد حقوق المرأة، ولكن بعد عقدٍ من الزمن، كما تقول معلا، فهم التونسيون النهضة جيدًا، وأدركوا أنها تخدم أجندة “تضر بالمصلحة الوطنية”.
وتقول معلا إن قضية تمويل حزب النهضة أصبحت قضية رأي عام كبرى في تونس، وهناك مؤشرات على أن التمويل يأتي من الخارج. هذا سبب القضايا القانونية الأخيرة ضد حزب النهضة، في محاولةٍ لكشف ما حدث خلال سنواته في الحكم.
واختتمت معلا حديثها بالإشارة إلى أن الرئيس سعيِّد وضع خارطة طريق سياسية للدولة. وفي هذه الأثناء، تحاول حركة النهضة تغيير اسمها، وتشكيل حزبٍ جديد. ومع ذلك، فمن الواضح أن حزب النهضة يمر “بلحظة عدم يقين وجودي، لكن السؤال الحقيقي هو ما إذا كان لديه أي شيء يقدمه لتونس أم لا… لا أعتقد ذلك”.
أسباب فشل جماعة الإخوان
من جانبه، قال حسين إبيش إن العقد الماضي أو نحو ذلك شكّل بالأساس قصة “صعود وسقوط الإخوان”. في أعقاب الثورات العربية، كانت جماعة الإخوان تتمتع بسلسلةٍ من المزايا الملحوظة: فهي لم تكن ملوثة بالارتباط بالحكام الذين سقطوا؛ وكانت لديها منظمات قائمة بالفعل، وهو ما لم تكن تمتلكه أي تنظيمات أخرى تقريبًا؛ وعلى الرغم من أن الإخوان لم يبدأوا أيًّا من الانتفاضات، فقد استطاعوا ادّعاء إطلاق شرارة “الثورة”، وساعدت قناة الجزيرة على ترسيخ هذه الرسالة. لقد كانت هذه “مزايا فريدة من نوعها وتنافسية”.
علاوة على ذلك، كان لجماعة الإخوان ميزة من حيث الاحترام الدولي، كونها غير عنيفة بشكل علني -الأمر الذي ميزها بذلك عن السلفيين الجهاديين؛ مثل القاعدة وداعش- وكان هناك “وهم”، لدى الغرب والإخوان أنفسهم، بأن الأغلبية في الدول الإسلامية تدعم الإسلامويين.
المشكلة، كما يقول إبيش، هي أن جماعة الإخوان تقوم على شعار “الإسلام هو الحل”، لكن الإسلام لا يقدم برنامجًا للحكم، لذلك انتهى بها الأمر إلى سلسلة من “المواقف الاجتماعية الرجعية”، التي لم يرغب فيها معظم الناس. وقد أدّى ذلك إلى إخفاق الجماعة، لأنها اعتقدت أنها تتمتع بتأييد الأغلبية، ما شجعها على “تجاوز الحدود عندما كانت في السلطة”، ما أثار ردود فعلٍ قوية في مصر وتونس.
خلال وجودها في السلطة، تبنتِ الجماعة منظور “الأغلبية المتشددة”، كما يقول إبيش، معتقدة أن الديمقراطية هي تحقيق “خمسين في المائة زائد واحد”، ومن ثم استخدام هذه الولاية في محاولة لتكديس السلطات البيروقراطية وسلطات المحاكم في يد الموالين، واستبعاد جميع الفصائل الأخرى. وهذا لم يخِف الأغلبيةَ الشعبية فحسب، بل أيضًا مؤسسات الدولة القائمة. وبما أن مؤسسات الدولة، مثل الجيش والمؤسسات الأخرى، لم تَنْهَرْ حتى بعد سقوط الحكام، فهذا يعني أنهم كانوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم، عندما بدأ الإخوان يتصرفون كما لو أن هذه المؤسسات قد انهارت، وهددوا سيادة القانون، والنظام الدستوري القديم.
يرى إبيش أن جماعة الإخوان المسلمين انتهت إلى اتخاذ موقفٍ رفضه الجميع تقريبًا: ففي دول مثل ليبيا وسوريا حيث جرى عسكرة الثورات، لم تكن جماعة الإخوان متطرفة بما يكفي لتكون قادرة على حشد العنف بفعالية للتنافس مع الجهاديين، في حين أنها كانت قريبة جدًا من الجهاديين في بلدان أخرى حيث ظلت الثورات سلمية، “كانت تتقاسم الكثير من الأهداف المشتركة”، وروّجت للخطاب السام نفسه الذي أثار قلق الناس الذين يمكن أن يروا القاعدة وداعش في بلاد الشام، ولا يريدون المصير نفسه لبلدانهم.
بشكلٍ عام، يرى هنيدي أن “الأحزاب السياسية التي تخلط الدين بالحكم غير مرحب بها” في المنطقة: فقد أظهرت هذه الأحزاب أنها “ممتازة في المعارضة، لكنها فاشلة في إدارة الدولة”. ويحذِّر هنيدي من أن تراجع الإسلاموية لا يعني أن جماعة الإخوان والجماعات ذات التفكير المماثل قد انتهت، إذ يمكنها أن تنتعش في المستقبل. ولكن هناك مؤشرات على أن الجيل الأصغر سنًا الذي انتفض ضد الحكام المستبدين في الربيع العربي قد رأى الآن ما يقدمه الإسلامويون -قوة المعارضة لعقود- في الحكم، ولا يعجبه ذلك. “لا يمكنهم إدارة دولة، وقد اتضح ذلك بشكل جليٍّ”.
التراجع الإقليمي للإسلاموية
أشار هنيدي إلى أن رد فعل الإسلامويين كان اتهام سعيِّد “بالانضمام إلى القوى الصهيونية والعلمانية الدولية في جميع أنحاء العالم. لقد جعلوا الأمر يتمحور حول الدين… وصدام الحضارات”. لكن هذا فشل في تعبئة التونسيين، الذين لم يكن لديهم اهتمام يُذكر بهذا المشروع الأيديولوجي، لكونهم أكثر قلقًا بشأن مستويات معيشتهم.
وأضاف هنيدي أن الإسلامويين في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في حالة تراجع. المغرب حالة أخرى بارزة، حيث قلّص فرع الإخوان المحلي طموحاته، وتصالح مع النظام الملكي. وحتى في تركيا، “التي تعتبر المقر الرئيس لجماعة الإخوان المسلمين”، “توقفت” الحكومة بعض الشيء عن دعم الإسلامويين، وبالمثلِ قللت قطر دعمها للجماعة بعد المقاطعة الخليجية لها، حسبما يقول هنيدي.
بدت خديجة معلا أكثر تشككًا في أن حركة النهضة والإخوان المسلمين في مثل هذا التراجع الحاد. وأكثر تشككًا في أن تركيا قد غيرت نهجها، مشيرة إلى أن أردوغان لا يزال يستضيف محطاتٍ إعلامية لجماعة الإخوان المسلمين، ويقدِّم في خطابه الدعم لرواياتها. وقالت معلا إنه من المهم أن نفهم أن حركة الإخوان دولية، ويجب أن يوضع هذا في الاعتبار حتى عند النظر إلى تونس. وهذا يعني، كما تقول، أن مجرد إخراج حزب النهضة من السلطة في تونس ليس نهاية المطاف: فقد تسلل الإخوان إلى مؤسسات الدولة لعقود، وتحظى حركة النهضة بنظام دعمٍ دولي واسع لدعم استمرارها خلال هذا الوقت العصيب.
ويرى إبيش أن “هناك ثلاث مشكلات ضخمة في نهج الإخوان المسلمين التقليدي الذي نفّر الناس، وأدّى إلى الفشل”: (1) كان “ثوريًا”، ما جعل الحكومات الأخرى في المنطقة تشعر بالتهديد؛ (2) “تآمريًا”، حيث إن الجماعة تفعل كل شيء سرًا، وتتصرف مثل “عصابة إجرامية”، ذات تمويلات مبهمة وعضوية غامضة، ما أقنع الناس بأن هناك ما تخفيه؛ و(3) “العامل القاتل في العالم العربي، أنها جماعة عابرة للحدود الوطنية… وهذا خطأ قاتل”. ذلك أن العمل كحركةٍ إقليمية والتدثر بعباءة الإسلام ينفّر الوطنيين؛ ورغم أنه كانت هناك مطالب شعبية بتحسين الأوضاع بالنسبة لدول محددة، فإن جماعة الإخوان قدمت شعارات أيديولوجية، واهتمامات إقليمية لم تكن مهمة بالنسبة للحياة اليومية لمعظم الناس.
الرياح الجيوسياسية تتحول ضد الإخوان
أوضح هنيدي أن التحولات الجيوسياسية أضرت أيضًا بجماعة الإخوان المسلمين. ذلك أن التحالف الإقليمي المناهض للإسلامويين -البحرين والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر والمغرب والأردن، “بالإضافة إلى اتفاقات إبراهيم” مع إسرائيل- “جعل المعسكر الإسلاموي ضعيفًا جدًا”. ويقول هنيدي إن ذوبان الجليد في العلاقات بين الإمارات وتركيا، مع تحول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الداخل للتركيز على الاقتصاد، ساعد على تعزيز هذا الاتجاه.
وكان موقف الإخوان المسلمين في المشهد الإسلاموي موضع خلاف، حسبما يقول إبيش، ذلك أن قطر رأت أن السماح لجماعة الإخوان المسلمين بالدخول في السلطة يعطي الإسلامويين مساحة للحركة، ويوجه أنشطتهم سلميًا، في حين رأت الإمارات أن الجماعة بمنزلة “البوابة.. التي تقدم كل هذه الأفكار” التي تقود في نهاية المطاف إلى الإرهاب. “وفي النهاية انتصر رأي الإمارات”.
وبعد عقدٍ من استعراض القوة من قبل مختلف الجهات الفاعلة، حيث حاولت تركيا وقطر إنشاء شبكة إقليمية من العملاء الإسلامويين السنة في مناصب قوية في العالم العربي، التي لم تنجح، ثبت أن كل ذلك كان مبالغًا فيه والوضع الآن يتجه نحو خفض التصعيد، حسبما يقول إبيش. و”تركيا، أقوى دولة على الورق، والأكثر إفراطًا في التوسع”: تشاجرت مع الجميع، باستثناء قطر وأذربيجان، وشمال قبرص وحماس، “قائمة صغيرة من اللاعبين الهامشيين”.
ويرى إبيش أن المنطقة تمر الآن “بمرحلة من التعزيز والتراجع والمناورة”: تعزيز المكاسب التي حققتها على مدى العقد الماضي؛ والتراجع نحو الداخل لإعادة البناء عسكريًا وغير ذلك؛ والمناورة من خلال “الدبلوماسية والسياسة والتجارة” لتحقيق أهدافها. هناك استثناءات ملحوظة مثل بشار الأسد في سوريا والحوثيين في اليمن، وكلاهما وكيل للحكومة الإيرانية، التي لا تظهر أي علامات على الابتعاد عن العنف كوسيلة لدفع ثورتها الإسلامية قدمًا.
ويقول إبيش إن إحدى الطرق الرئيسة التي وصلت بها المنطقة إلى هذا الوضع الأكثر استقرارًا هي “كسر شوكة” قناة الجزيرة بسبب المقاطعة العربية لقطر. فالقناة التي كانت ذات يوم تتمتع بجاذبية شعبوية في المنطقة بخطابها العربي والإسلامي أصبحت الآن “مجرد دعاية قطرية، باعتبارها لسان حال الدوحة”. اكتسبت قناة الجزيرة “مصداقية الشارع” خلال التسعينيات، والربيع العربي، لكنها الآن “تقلصت إلى حد كبير، لدرجة كونها مجرد محطة أخرى” وهذا “مهم جدًا جدًا لفهم أزمة الإخوان”، الأمر الذي يترك للإخوان وتركيا وقطر “القليل جدًا من الأدوات التي يستغلونها”.
“هل يمكن [للإخوان] العودة؟ بالطبع يمكنهم ذلك”، هكذا يقول إبيش. “أفضل فرصة لديهم الآن هي أن تتمادى” القوى المناهضة للإسلامويين. إذ يرى إبيش أن السلطات الانتقالية في تونس تخاطر بالقيام بذلك، إذا لم تكتمل العملية الديمقراطية في غضون فترة زمنية معقولة.
وفي إشارةٍ إلى نقطة طرحتها معلا حول استغلال الإخوان للمظالم الحقيقية، أشار إبيش إلى أن هذه المظالم متوطنة في العالم العربي، ولكن إذا عاد الإخوان بشكل ما، فعليهم تقديم حلول أفضل مختلفة لدرجة أن ذلك يعني أن الإخوان ستصبح كيانًا مختلفًا. وأضاف إبيش أن المؤشر على مدى رفض استخدام الدين كمصدر لشرعية الدولة في المنطقة هو السعودية، حيث يتم فصل الوهابية عن النظام الملكي. وإذا فشلت جماعة الإخوان في التقاط هذه الإشارة، فقد يكون تراجعها نهائيًا.