فوزية عبدول، مستشارة سياسات داخل منظومة الأمم المتحدة، بشأن الشمولية والنوع الاجتماعي، وباحثة في بناء السلام في الشرق الأوسط وأفغانستان، والتطرف، وحقوق المرأة في جامعة فيينا، من بين جامعاتٍ أخرى.
بعد عشرين عامًا من التدخل الأمريكي، ومحاولات إحلال السلام، استدارت الأيام وعادت أفغانستان إلى المربع الأول، حيث استعادت طالبان السلطة في أغسطس 2021.
لطالما كان الإسلام عاملاً فاعلًا في أفغانستان، وحاضرًا على الدوام. لذا، تظهر أهمية الإسلام بجلاء ليس في سياق الإرهاب، وتهديد الغرب فحسب، بل في تشكيل الأمة الأفغانية. لكن الأهم بالنسبة لنا هنا هو دراسة الفترات التي تسيطر فيها جماعة متطرفة مثل طالبان على الدولة.
في أعقاب عودة طالبان
بعد عودة طالبان إلى السلطة، حاول العديد من الأفغان الفرار من الدولة، وحاول المجتمع الدولي على عجلٍ إيجاد حل يتراوح بين تشكيل ملاذاتٍ آمنة في مختلف أنحاء الدولة إلى تقديم منح دراسية للفتيات -في المجالات الأكاديمية والرياضية والفنية– حتى يتمكن من مغادرة أفغانستان، الأمر الذي حظي بتغطية إعلامية هائلة. وقد أدّى القلق المتنامي بشأن أمن المنطقة، ناهيك عن مصير الشعب الأفغاني، خاصة النساء والأقليات، إلى دفع العديد من الأصوات في مختلف أرجاء العالم إلى الحثِّ على التعاون مع طالبان. واقترح معظمهم القيام بذلك دون الاعتراف بشرعية حكم الجهاديين، وإن كان البعض قد دعا إلى قبول استيلائهم على السلطة من أجل السيطرة على الإرهاب، ومعالجة المشكلات الإنسانية.
وفي الوقت الذي كان ينتابُ فيه العالمَ الخارجي والسكان الأفغان القلق، شوهدت عناصر طالبان وهي تلهو في كابول، وتزور المتنزهات والصالات الرياضية بعد استيلائها على السلطة، إلا أنهم ما لبثوا أن أحرقوها كلها بعد فترة وجيزة، الأمر الذي يظهر نفاقهم، وينذر بالطبيعة العنيفة لنظامهم.
إرث من الخيانة والذكريات المؤلمة
على الرغم من أن تركيز طالبان على الإسلام لكسب الدعم السياسي لأفعالها قد نجح في بعض النواحي، فإنها أظهرت جهلًا بالهوية الوطنية الأفغانية العميقة الجذور. وهذا يمثل تهديدًا للتنوع الفريد الذي يطبع المجتمع الأفغاني. وفي الماضي، انخرطت طالبان في تدمير الآثار التاريخية والإبادة الجماعية ضد أقليات عدة، تاركة ذكرياتٍ مفجعة للشعب الأفغاني الذي يخشى أن يُعيد التاريخ نفسه.
منذ أن أزاحت الولايات المتحدة طالبان في عام 2001، اعتبرت حكومات أفغانستان فاسدة، وفشلت النخبة في العاصمة إلى حد ما في التعامل مع المجتمعات المحلية في الولايات. وكان هذا خطأ فادحًا، لأن فقراء الريف يشكلون 70% من سكان أفغانستان. كما أن فترة الحرب التي أعقبت عام 2001 خلّفت وراءها صدماتٍ نفسية، تلك الفترة التي ولد فيها ونشأ قرابة نصف السكان. ولا شك أن هذه العوامل ساعدت طالبان على إيجاد جمهورٍ مستعد لقبول رسالتها. ولكن تلك الرسالة، التي حملت وعودًا بالسلام والاستقرار، كانت كاذبة.
الجدير بالذكر أنه كان هناك وعد بالسلام من قبل، ولم يتحقق أيضًا. كانت الولايات المتحدة تنوي تحقيق السلام والديمقراطية، ولكنها لم تستطع أبدًا الوفاء بالوعد نتيجة تمرد طالبان المدعوم من باكستان. وحدثت مشكلات أخرى، بما في ذلك انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الحلفاء الأفغان الذين اختارتهم الولايات المتحدة.
ومن المفارقات أن بعضًا من هذا حدث بسبب فشل الولايات المتحدة في بذل المزيد من الجهد، والسيطرة على عملية بناء الدولة: فقد سُمح لبعض أبشع الجرائم التي ارتكبها الحلفاء بالاستمرار لأن الولايات المتحدة كانت تخشى التصادم مع “الثقافة والدين” في أفغانستان. لقد وقعت أخطاء عدة، منها أخطاء في التواصل، ربما أبرزها حادثة عام 2012 عندما سحبت الولايات المتحدة المصاحف من سجناء طالبان في قاعدة باجرام الجوية الذين كانوا يستخدمونها لتمرير الرسائل بين بعضهم بعضًا، ثم دمروا المصاحف، ما أثار أعمال عنف جماعية في جميع أنحاء الدولة.
ومع ذلك، جلبتِ الولايات المتحدة العديد من الفوائد لأفغانستان، خاصة الزيادة الهائلة في الازدهار -حتى لو كان هناك بعض الانتقادات، بأنها تركزت أكثر مما يجب بين النخبة- والبنية التحتية الضخمة، تحديدًا مرافق التعليم والرعاية الصحية، التي استفاد منها جميع السكان.
المرأة الأفغانية
في كثيرٍ من الأحيان على مرِّ السنين بعد سقوطهم من السلطة، صرّح قادة طالبان بأنه ليس في نيتهم إساءة معاملة النساء الأفغانيات. وقالت الحركة إن حقوق المرأة ستكون محمية بموجب الشريعة الإسلامية. لا أحد يعرف بالضبط ما يعنيه هذا بالنسبة لحياة النساء، على الرغم من أن سجل فترة حكم طالبان 1996-2001 يشير إلى أنه يعني تهديداتٍ خطيرة للحقوق التي أصبحت المرأة الأفغانية تتوقعها.
ومنذ عودة طالبان إلى السلطة، استبعدت النساء من التوزير، ومن الإشراف على الحكومة، بل ومن أي وظائف حكومية. لقد خسرت المرأة الأفغانية كذلك في العديد من مجالات الحياة الأخرى، ما يؤكد زيف خطاب طالبان، سواء الذي قدِّم للباحثين الغربيين، والصحفيين، والدبلوماسيين، أو ممثلي المجتمع المدني الأفغاني وسماسرة السلطة. ومن الواضح أن حقوق المرأة والأقليات ستكون مرة أخرى ضحايا لحكم طالبان.
حقوق المرأة نقاش معقدُ للغاية، ومحل خلاف ومشحون سياسيًا، ليس على الصعيد الدولي فحسب، بل بين الأفغان وبين النساء الأفغانيات أنفسهن. إنه نقاش يتجاوز الفجوة بين الريف والحضر، ويمتد إلى ما هو أبعد من الاختلافات بين الجهات الفاعلة والشرائح السكانية المؤيدة لطالبان والمناهضة لها. ورغم سيادة مجموعة واسعة من القيود والأوضاع غير الآمنة للنساء، في جميع أنحاء أفغانستان، فإن المرأة الأفغانية لديها القدرة على العمل، ولديها بعض التوقعات الأساسية المشتركة. وبالتالي، ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن النساء في المناطق الريفية اللواتي كن أكثر تأييدًا للتفاوض مع طالبان قد انضممن إلى النساء اللواتي خرجن إلى الشوارع للاحتجاج على الحبس المنزلي والقيود المفروضة على تعليم المرأة من جانب طالبان.
وهذا يؤكد الاستنتاجات التي خلص إليها تقرير أعدته مجموعة الأزمات الدولية، حيث اتفقت النساء الحضريات والريفيات على شيءٍ واحد: ألا يبقين في المنزل مرة أخرى، وأن يرفضن تقييد حياتهن بالطريقة التي فعلتها طالبان في المرة الماضية.
مستقبل مظلم للأقليات الأفغانية
في حين أن طالبان كانت غامضةً إلى حد ما حول ما تعنيه بالنسبة للمرأة الأفغانية، وكانت النساء الأفغانيات أنفسهن منقسماتٍ في بعض الجوانب، فإن الوضع بالنسبة للأقليات العرقية كان أكثر وضوحًا وأكثر قتامة. لقد رُفضت حقوقهم خلال محادثات السلام وأعلنت طالبان صراحة عن نيتها إلغاء الحقوق التي اكتسبتها الأقليات في ظل الحكومة الأفغانية المدعومة من حلف الناتو. ولم تُخف طالبان أبدًا أنها ترى في تنوع الهويات العرقية-الدينية تهديدًا للمجتمع، وقد كان هذا نذيرًا بالمخاطر والاضطهاد التي تواجهها الآن الأقليات العرقية والدينية.
أفغانستان: ملاذ آمن للإرهابيين
لم تراعِ شروط السلام النهائية في اتفاق الدوحة الذي أبرم بين الولايات المتحدة وطالبان، حقوق المرأة والأقليات، بل يمكن القول إنها لم تهتم كثيرًا بالشعب الأفغاني بشكلٍ عام، حيث كان من الواضح أنها غير واقعية وغير قابلة للتنفيذ. ومع ذلك، توصل اتفاق الدوحة إلى شيء واحد، وإن كان غامضًا، هو الإرهاب في أفغانستان: فقد التزمت طالبان بمنع استخدام الدولة كمنصة انطلاق للإرهابيين الدوليين. ومع ذلك، لم يدعُ الاتفاق طالبان إلى قطع صلاتها بتنظيم القاعدة، ولا إلى طرد القاعدة من أفغانستان، ما ترك مجالًا لتفسيراتٍ مختلفة.
وقد شوهد مؤشر على تفسير طالبان لهذه الصفقة مؤخرًا عندما كان عبد الحق التركستاني، زعيم الحزب الإسلامي التركستاني الأويغوري، ومسؤول في تنظيم القاعدة، حاضرًا علنًا خلال احتفالات عيد الفطر في مايو 2022 في أفغانستان، الأمر الذي “يتناقض بشكلٍ مباشر مع ادعاء طالبان بأنه لا يوجد مقاتلون أجانب يعملون أو يتمركزون في الدولة”. لطالما كانت مشكلة تحوّل أفغانستان “الطالبانية” إلى أرضيّة خصبة للتطرف والإرهاب مصدر قلق منذ استيلائها عليها، وهو ما عبّرت عنه الاستخبارات الأمريكية علنًا في بعض الأحيان، على الرغم من وجود سؤال في غاية الأهمية حول ما تعرفه أجهزة الاستخبارات الغربية (ويمكن أن تعرفه) عن الأنشطة الإرهابية في أفغانستان.
إن مكانة الحزب الإسلامي التركستاني داخل العالم الجهادي محل جدل إلى حد ما، ومسيّسة إلى حد كبير. ولكن من الواضح أن الدافع الرئيس للحزب الإسلامي التركستاني هو القمع الذي يعانيه المسلمون على يد الحزب الشيوعي الصيني. لذلك فمن المثير للاهتمام أن طالبان وشركاءها في القاعدة، يتعاونون مع الحزب الإسلامي التركستاني على أساس أيديولوجية مشتركة وفكرة الأمة الإسلامية، في حين يتعاون نظام طالبان بشكلٍ وثيق وبشكلٍ متزايد مع الحزب الشيوعي الصيني، الذي يشارك في حملة إبادة جماعية ضد مسلمي الأويغور في الصين.
تطلعات طالبان الدولية
لم تشكِّل طالبان حكومة شاملة: عشرة في المائة فقط من الحكومة هم من الأعراق الأخرى غير البشتون، العرق الذي يهيمن على طالبان، وكما ذكرنا أعلاه استبعدت النساء تمامًا. وتعتقد طالبان أن تفسيرها المتشدد للإسلام هو المهم، ومن لا يؤيده سيذوق وبال أمره.
إن الغموض الذي يكتنف الرسائل العلنية لطالبان حول علاقتها مع تنظيم القاعدة، وادعائها بأنها تريد فقط حكم أفغانستان، موجود جنبًا إلى جنب مع حقيقة أن الحركة كانت لديها دائما نظرة دولية، وأن التوسع الإقليمي لطالبان كان يسير بالتوازي مع دعم المنظمات الإسلاموية في الخارج.
قد يبدو أن هناك توترًا بين طالبان وأسلافها الذين يعارضون التدخل الخارجي في أفغانستان، سواء كان الاتحاد السوفييتي في فترة الثمانينيات، أو الولايات المتحدة في السنوات العشرين الماضية، وترحيب طالبان بتنظيم القاعدة. ولكن من الناحية الأيديولوجية، تنظيم القاعدة بالنسبة لطالبان ليس تنظيمًا أجنبيًا، بل جزء من الأمة الإسلامية، وتنظر إليه على أنه يعزِّز موقفها وأجندتها المعولمة. وهذا قد يصبح مصدر قلق بالغ في المستقبل القريب. ويمكن رؤية هذه العلاقة الحميمة في مسؤولين مثل سراج الدين حقاني، نائب زعيم حركة طالبان ووزير داخليتها، وهو أيضًا مسؤول بارز في تنظيم القاعدة.
أما القلق الآخر، إلى جانب تمتع تنظيم القاعدة بمزيدٍ من الحرية في إنشاء معسكرات تدريب وتنمية حركته العالمية في أفغانستان التي تحكمها طالبان، فهو ولاية خراسان التابعة لتنظيم داعش. يأتي هذا في ظلِّ أن ولاية خراسان، العدو اللدود لطالبان والقاعدة، تكتسب قوة مطردة في أفغانستان منذ سقوط كابول في أيدي طالبان.
الطريق إلى سلام مستدام في أفغانستان
تسيطر طالبان بحكم الأمر الواقع على أفغانستان، على الرغم من إخفاقها في الحصول على اعترافٍ دولي والتحديات التي تواجه استقرار حكمها من داعش-خراسان وغيرها من التنظيمات. لقد غزت طالبان المدن ودمرتها بينما كانت تستخدم خطاب السلام والاستقرار. لكن تجاهل الحركة للتنوع في أفغانستان يجعل نجاحها في إحلال السلام غير مرجح، فالقوة العسكرية وحدها لا يمكن أن تنجح إلى الأبد. ولسوف يستمر كفاح أفغانستان الطويل من أجل الحرية.
وحتى الآن، نجحت طالبان في أن تحظى ببعض القبول بين المجتمعات الريفية المحافظة، حيث كانت المعاناة خلال حروب السنوات الأربعين الماضية أسوأ، لكنها تحظى بجاذبية أقل بكثير في المدن، حيث اعتادت الأقليات والنساء (من بين آخرين) على ممارسة مجموعة من الحريات منذ عام 2001.
من الأهمية بمكان هنا تحديد ماهية الحرية. وفي هذا الصدد، قالت منيزه بختاري، السفيرة الأفغانية لدى النمسا عندما انهارت أفغانستان:
“عندما أتحدث عن الحرية، فأنا أتحدث عن تعريف الحرية كمسلمة، وكامرأة أفغانية. ومع ذلك، كمسلمة، أعتقد أن الحرية تعني الاعتدال، والأهم، حرية التعبير بطريقتك الخاصة. نريد أن يكون لدينا مجتمع حر، حيث يمكن للجميع ممارسة حقهم في مواصلة تعليمهم، ومزاولة مهنهم”.
وختامًا، لا يمكن لأفغانستان أن تحقق ما تصبو إليه تحت حكم جماعة متطرفة كطالبان -فهي لا تستطيع أن تدير دولة تحتفى بكل صنوف الهوية الوطنية وأطيافها – و“السلام الذي لا يرى فيه الأفغان تعبيرًا عن أنفسهم هو سلام غير مستدام”.
*يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.