فؤاد العسيري*
ما زال التطرف الإسلامي من القضايا المقلقة للغاية في أوروبا، فهو سببٌ جذري لمعظم حوادث الإرهاب هناك. وكون أغلب هذه الحوادث الإرهابية تقع في المدن الأوروبية، فإن المهتمين يدرسون تأثيرَ هذه الأنشطة الإسلامية المتطرفة على تغيير النسيج العمراني والاجتماعي في المدن، ويهتمون أيضًا بمعرفة هل هناك ارتباطٌ بين الهجرة والإرهاب في المدن الأوروبية أم لا؟
في عام 2019، بلغ عدد الهجمات الإرهابية في الاتحاد الأوروبي 119 اعتداء، حيث وقع 64 هجومًا في المملكة المتحدة، و29 في إيطاليا، بينما وقعت معظم الهجمات الـ 26 المتبقية في فرنسا واليونان وألمانيا وإسبانيا وهولندا. وفي محاولةٍ لتحديد من هم الجهاديون الأوروبيون، أظهر تقرير صادر في عام 2018 عن برنامج الدفاع والأمن في معهد السياسات GLOBSEC واستنادًا إلى البيانات التي تم جمعها بين عامي2017 و2018، أظهر أن 87% من الجهاديين كانوا ذكورًا و13% إناثًا. ومن المهم ملاحظة أن لفظ جهاديّ Jihadist لا يُستخدم إلا للدلالة على المتطرفين الإسلاميين الذي يقومون بهجماتٍ قتالية.
من جانبٍ آخر، كان متوسط عمر الجهاديين30.3 سنة، لذا يمكننا القول إن معظمهم كانوا من الشباب. و40% كانوا عاطلين عن العمل، و9% أنهوا دراستهم الثانوية فقط. ويظهر التقريرُ أيضًا أنَّ 26% من عينة بيانات الجهاديين متورطون في أيديولوجيا متطرفة من خلال الأصدقاء وأفراد الأسرة، و14% عبر الإنترنت، و23% من خلال الدوافع الفردية، و10% عبر السجون، و8% من خلال وكلاء التجنيد المتطرفين.
الرقم الأكثر أهمية في هذا التقرير هو أن 73% من الجهاديين، في عينة البيانات، أمضوا 50% من حياتهم في الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فإن 72% منهم مواطنون، و8% يحملون جنسيتين. وسببُ التركيز على الأعمال الإرهابية للدلالة على وجود التطرف هو أنها معيارٌ قابل للقياس، بينما التطرف مفهوم غير قابل لذلك. ولا يعني هذا أن هناك علاقة سببية متلازمة بين الهجرة والإرهاب، ولكنها علاقة ارتباط بلا شك.
يبلغ عددُ الأشخاص المقيمين في دول الاتحاد الأوروبي، ويحملون جنسية دولة غير عضو في 2019 قرابة 21.8 مليون. ومن عام 2010 إلى 2016 بلغت نسبة المهاجرين المسلمين إلى أوروبا (الاتحاد الأوروبي وسويسرا والنرويج) قرابة 46% أتوا من البلدان العربية، وإيران والصومال وباكستان وبنغلاديش ونيجيريا. وقد أجاب عالم الاجتماع الأمريكي؛ الدكتور أكبر أحمد، في مقابلة على سؤال يقول: ألا يمكن أن يكون التعارض نشأ من خلال تصور الأشخاص الذين يأتون من أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا على أنهم “مسلمون” بدلًا من (على سبيل المثال) من أحفاد أعراق عربية أو فارسية أو جنسيات معينة؟” فأجاب قائلاً: “بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كان العامل المشترك الذي حدَّد المسلمين في الولايات المتحدة وأوروبا هو أنه كان يُنظر إليهم على أنهم مسلمون؛ أي أنه ببساطة الدين محدد لهويتهم، وليس بلدهم الأصلي أو العرق أو الطائفة أو الطبقة أو المهنة”.
الفصل: خيار أم تأثير؟
هنا نتبين أن المسؤولية مشتركة بين المهاجرين، وكذلك الأنظمة المضيفة، بغض النظر عمن يأتي أولًا البيضة أم الدجاج. وقد يمثل هذا التغيير في تعريف الهوية الشخصية فصلًا عميقًا غير مكتوب بين المسلمين الأوروبيين؛ سواء كانوا مواطنين أو مهاجرين أو مقيمين في المجتمعات الأوروبية غير المسلمة. عندما يرى المسلمون الأوروبيون المتطرفون هذه الطرق الجديدة لتحديد الهوية، فقد يعتبرون أنفسهم مجتمعات منفصلة حتى لو كانوا مواطنين من أصول غير أوروبية، وربما يتصرفون وفقًا لذلك ويعطون أنفسهم ذريعة لفعل ما يريدون لتفعيل معتقداتهم.
اندماج الأجانب -المهاجرون والمولودون في الخارج، ونخص هنا المهاجرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب وشرق آسيا فقط، ومعظمهم يعتنقون الإسلام، وينقل بعضهم التطرف إلى أوروبا- مع المجتمعات في المدن الأوروبية أمر مشكوك فيه حتى بعد عقود من العيش في أوروبا. في منشور صادر عن يوروستات في عام 2015 لمحاولة معرفة درجة اندماج المهاجرين مع المجتمعات المضيفة ولو بشكلٍ تقريبي، يوافق 65% من سكان لندن على أن الأجانب المهاجرين أو المواطنين من أصول غير أوروبية الذين يعيشون في لندن مندمجون جيدًا، و52% مندمجون جيدًا في برشلونة، وأقل من 46% في روما، وبين 46% و52% في باريس.
وتُظهر البيانات أن التجانس السكاني في المدن الأوروبية والمناطق الحضرية ليس في أفضل حالاته في العقود الأخيرة بعكس ما كان عليه الوضع في الستينيات والسبعينيات، وقد يكون السبب هو المد الأصولي المتطرف الذي نما في العقود الأخيرة، والذي امتد أثره إلى المدن الأوروبية.
تختلف إحصاءات المهاجرين من منطقة حضرية إلى أخرى، على سبيلِ المثال، سجلت روما في الفترة من 2009 إلى 2014 أعلى صافي هجرة بين جميع المدن الكبرى في أوروبا (حوالي 70,000 في السنة). تأتي ميلانو في المرتبة الثانية بحوالي 42,800 في السنة، وتأتي برلين في المرتبة الثالثة بحوالي 38,000 في السنة. (صافي الهجرة هو الفرق بين عدد المهاجرين القادمين والمغادرين).
الجيل الثاني المستاء غالبًا
المهاجرون غير المندمجين مع المجتمعات المضيفة يميلون للعيش في عزلة وفي دوائر صغيرة، وذلك يوثر في فرص الحصول على التعليم الجيد، والوظائف، والفرص الأخرى. على الأرجح. الجيل الأول من المهاجرين ربما يكون ممتنًا نظرًا للفارق بين مستوى المعيشة في بلده الأصلي (غالبًا من الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وجنوب وشرق آسيا). لكن سيكون بعضٌ من الجيل الثاني غاضبًا وناقمًا، وقد ينقلب على المجتمع أو البلد المضيف. وهذا أحد الأسباب المهمة التي تفسر وجود العديد من الجهاديين في داعش أو القاعدة من الدول الأوروبية. انضم حوالي 4294 مقاتلًا من الاتحاد الأوروبي إلى داعش، ومعظمهم من الجيل الثاني للمهاجرين، وعاد حوالي 30% منهم إلى أوطانهم وفقًا لتقرير صادر في عام 2016 عن المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في لاهاي. وقد يكون في هذا دلالة على وجود التطرف في أوروبا.
تقاتل أحزاب اليمين الراديكالي الأوروبي ضد جميع أنواع الهجرة في جميع البلدان الأوروبية تقريبًا، وتصبح الهجرة قضية مهمة في أي انتخابات. يعتقد ناخبو الأحزاب اليمينية أن الهجرة “خطيرة” على مجموعاتهم الأصلية. تصنَّف جميع الأحزاب اليمينية المتطرفة اعتمادًا على النزعة العرقية، وكذلك الأحزاب القومية التي تناهض التعددية الثقافية التي هي أحد المبادئ التي تدعمها الأحزاب الخضراء، وأحزاب ما بعد الشيوعية اليسارية، والديمقراطية الاشتراكية والليبرالية.
من جهةٍ أخرى، يرى العديد من الرأسماليين فرصًا في وجود المهاجرين، فهم يعملون برواتب منخفضة وعادة يقبل المهاجرون نوعًا من الأعمال المصنفة على أنها غير مفضلة من قبل مواطني الاتحاد الأوروبي. أيضًا وبشكل عام، لا يمكن إنكار الدافع الأخلاقي للدول الأوروبية لمساعدة المهاجرين، ودور المنظمات الإنسانية العديدة في ذلك.
تأثير السياسات على المكوِّن الحضري
تم تغيير سياسات الهجرة في الاتحاد الأوروبي كثيرًا مع مرور السنوات بسبب الأحزاب المختلفة، ووجدت هذه التغييرات في السياسات طريقها إلى مجالس المدن، وإلى التشريعات الحضرية أيضًا. ونقصد بالتشريعات الحضرية مجموعةً من السياسات والتشريعات والمبادئ التوجيهية والقرارات والممارسات التي تحكم إدارة وتطوير البيئة الحضرية أو المدن.
يرتبط معظم المهاجرين غير المندمجين بشكل ما بالمعتقدات الراديكالية التي تقف كحاجز بينهم وبين الاندماج (المكاني والثقافي) مع المجتمعات المضيفة. وغالبًا تكون القدرة على تحمل تكاليف السكن للمهاجرين أو المواطنين من أصولٍ غير أوروبية الذين لا يرغبون في الاندماج مع المجتمع المضيف أقل بكثير من الآخرين، وهذا يخلق بعض الضغوط على المشرعين الحضريين لزيادة مشاريع الإسكان المدعومة من الحكومة حتى يصبح الحصول على السكن أكثر سهولة وأقل تكلفة.
قد يؤدي هذا إلى حدوث فصل مكاني في النسيج الحضري والاجتماعي، ويخلق مشاكل اجتماعية مع الأخذ في الاعتبار المستوى المختلف لاندماج المهاجرين مع المجتمع المضيف الذي ذكرناه سابقًا. وقد يؤدي هذا إلى نشوء أحياء ذات دخل مرتفع، وأحياء ذات دخل منخفض، وهذا أحد أهم أسباب المشاكل الحضرية. يزداد النسيج العمراني المعزول، ويوفر بيئة خصبة للجماعات الإسلامية المتعصبة لتتجمع في هذه الأحياء ذات الدخل المنخفض.
يخلق هذا الفصل عقلية “نحن” و”هم”، وتوترًا إضافيًا في البيئة الحضرية بشكلٍ عام، وفي المجال العام بالخصوص، وعبئًا إضافيًا لتعديل التشريعات التي تحد من إبراز الهويات الدينية، وتكاليف مالية كبيرة على السلطات المحلية.
قد تصبح جودة الخدمات العامة والتعليم، ومقدمي الخدمات الصحية، أقلَّ في الأحياء ذات الدخل المنخفض. ففي اليونان، تم طرح العديد من الاقتراحات لترميم وإعادة استخدام المصانع الصغيرة المهجورة كمنازل للمهاجرين، وهذا سوف يخلق بيئات تشبه العشوائيات والمخيمات الدائمة إلى درجة كبيرة وتركيز كبير لفئة ذات دخل محدود، وهذا يضعف فرص اندماجهم مع المجتمع المضيف.
الخلاصة
طرح البعضُ ضرورة تكييف التشريعات الحضرية لتلبية احتياجات المهاجرين كحل وسط، وكمحفز لهم لزيادة فرص اندماجهم وإلا فقد تزداد المشاكل الحضرية. من ناحيةٍ أخرى، غيَّرت بعض المدن التشريعات لجذب المهاجرين إذا انخفض عدد السكان، وبعض المدن تفعل العكسَ.
يجب على بعض المدن تكييف التشريعات الحضرية وتعديل استخدام الأراضي لتصبح أكثر انسجامًا مع الثقافات الجديدة والعرقية والدينية، وإلا فقد يعاني المهاجرون إذا لم تحقق التشريعات المساواة الحضرية كما يرغبون، وكما تتطلب المرحلة كي يساعدهم ذلك على الاندماج وإذابة المخاوف من المجتمعات المضيفة.
في مدن أوروبية أخرى، وكأحد الجوانب الإيجابية، أدَّى الترحيب بالمهاجرين إلى إعادة فتح بعض الشوارع التجارية الميتة لأنهم يستطيعون تشغيل بعض الأعمال التجارية مثل المطاعم والبقالات بتكلفة تشغيل منخفضة. ولكن في معظم مدن الاتحاد الأوروبي، ينتقل المهاجرون إلى المجمعات السكنية العامة أو إلى المناطق الأقل نموًا في المدن أو الأحياء الفقيرة. ثم يبدأ الجيل الثاني موجات جماعية متزامنة للانتقال إلى أماكن أفضل للعثور على فرص أفضل، ثم تجد المدن صعوبات في تلبية هذه الموجات الجديدة من الطلب لتطوير مناطق جديدة لهم.
*مستشار التخطيط الحضري