يُعتقد أن زعيم تنظيم داعش أبوبكر البغدادي قد لقي حتفه في عملية خاصة قامت بها القوات الأمريكية في محافظة إدلب، وتزامنا مع هذا الحدث نعيد نشر تحليل سبق أن نشرناه حول زعم داعش.
نشر تنظيمُ داعش فيديو مدته 18 دقيقة، تقريبًا، يوم الاثنين 29 أبريل 2019، باللغة العربية، بعنوان “في ضيافة أمير المؤمنين”، يظهر فيه الزعيم الغامض للتنظيم الجهادي، أبو بكر البغدادي، على أنه البطل المطلق. ومن الأهمية بمكان، هنا، ملاحظة أن الخطابَ الأخير الذي أذيع للبغدادي، في صيغةٍ صوتية فقط، كان في أغسطس 2018، بينما لم يظهر في شريط فيديو سوى في خطبته الشهيرة، في 4 يوليو 2014، والتي أعلن فيها من منبر جامع النوري الكبير في الموصل بالعراق، عن تأسيس “الخلافة”، التي كان التنظيم قد أعلنها قبل هذه الخطبة بأسبوع في 29 يونيو (بداية شهر رمضان وقتها) على لسان المتحدث الرسمي للتنظيم، أبو محمد العدناني.
توقيت نشر الشريطين المصورين للبغدادي -وهما التسجيلان الوحيدان اللذان يظهر فيهما بشكل مباشر خلال أكثر من عشر سنوات- يستحق الاهتمام. احتفى الفيديو الذي نشر عام 2014 بإنشاء “الخلافة” رسميًا، بينما يظهر الفيديو الأخير عقب أسابيع قليلة من الانهيار الإقليمي لـ “شبه الدولة” الجهادية.
والجدير بالذكر أن نشر الفيديو الأخير يتزامن مع قرب حلول شهر رمضان (6 مايو 2019)، الشهر الذي استخدمه داعش في السنوات الأخيرة في الدعاية وزيادة وتيرة الأعمال الإرهابية.
يُعدّ نشر الفيديو من قبل مؤسسة الفرقان، أقدم أجنحة داعش الإعلامية، وأكثرها أهمية، أمرًا لافتًا في حد ذاته، وكما لوحظ، فإن جميع النشرات الإعلامية الأخيرة تقريبًا التي صدرت عن القناة كانت في شكل صوتي، بينما يُعتبر الفيديو الدعائي الذي نُشر قبل فيديو البغدادي بيوم واحد، هو الأول الذي يصدر عن الفرقان منذ “فيديو بنْيَة الخلافة”، الذي يعود إلى يوليو 2016.
المعلومة الأولى التي يقدمها الفيديو هي أن القائد لا يزال على قيد الحياة، وذلك لنفي ما تمّ تداوله حول مقتل البغدادي أو إصابته، وهو ربما المطلوب الأول على كوكب الأرض، وقد تداولت مصادر روسية في مرات عدة في السنوات الأخيرة، مثل هذه الأخبار. المنشقون عن داعش وصفوا مؤخرًا البغدادي بأنه “نحيف للغاية ولحيته… أكثر بياضًا”. لكن على العكس من ذلك، يظهر البغدادي في شريط الفيديو بصحة جيدة، وقد ازداد وزنه، وتبدو لحيته مصبوغة بالحناء.
من جانب آخر، يبدو أن البغدادي لا يزال يحتفظ بمكانة راسخة على رأس التنظيم بأسره، ويظهر أنه قوي ومتماسك. ومن الأهمية بمكان ملاحظة أن الحفاظ على الانضباط الداخلي في التنظيمات السرية العنيفة، غالبًا، ما يشكل تحدياتٍ وتعقيداتٍ. ففي مكان غير محدد، يظهر القائد، وهو يجلس مُتَربِّعًا في مكانٍ مغلق يخلو من الزينة والديكور، يتحدث بهدوء إلى ثلاثةٍ من مسؤولي داعش (الذين تم حجب وجوههم)، وهم ينصتون إليه. يتسم الفيديو بأكمله بالبساطة والرزانة، ويغلب على المونولوج طابعٌ رسمي جاف. يبدو البغدادي أشبهَ بقائد عسكري لجماعةٍ متمردة، أكثر من “خليفة” مُبجّل. تصويره في هذا الإطار، وهذه الوضعية، تحديدًا، يُظهر أنه رغم لجوئه للاختباء، فإنه ليس هاربًا، وحيدًا، منفصلًا عن الواقع.
وتظهر إلى جانب البغدادي بشكل ملحوظ بندقية هجومية نادرة من طراز ” AKS-74U” سوفييتية الصنع، مع خزنة ذخيرة كبيرة. وعادة يتم إبراز السلاح، في هذا السياق، بوضوح، ليس لحداثته وفائدته القتالية، بل لدلالته الرمزية العميقة في المخيلة الجهادية، ذلك أن هذ الطراز من البنادق قد تم استعراضه، قبل البغدادي، من قبل أسامة بن لادن، ومؤسس داعش، أبو مصعب الزرقاوي. علاوة على ذلك، وعند التدقيق في المشهد، نجد أن التصميم الكامل له يُذكرنا بفيديو الزرقاوي (“رسالة إلى الشعب”)، الذي نشر في أبريل 2006، حيث ظهر لأول مرة أمام عناصر التنظيم، قبيل أسابيع قليلة من مقتله.
توحي بعض الإشارات المتعلقة بالأحداث الأخيرة -سقوط الحكام القدامى في الجزائر والسودان، والانتخابات في إسرائيل- إلى أن الفيديو ربما يكون قد تم تسجيله في وقتٍ ما قرب منتصف شهر أبريل 2019. ويركز البغدادي علي الماضي القريب، ويقدم المزيد عن حالةِ الجماعة المسلحة والقليل عن اتجاهها المستقبلي. ومن بين جملة من الأمور، يذكر الهزيمة التي وقعت في معركة الباغوز، في إشارة إلى بلدة الباغوز؛ آخر معقل للتنظيم الجهادي، التي تقع على الحدود بين سوريا والعراق، والتي سقطت في 23 مارس 2019.
ويقول البغدادي إن نتيجة معركة الباغوز أقل أهمية من حماس الأفراد الذين شاركوا فيها والتزامهم. يضيف البغدادي أن ما يهم هو “بسالة وصلابة وثبات الأمة المسلمة مقارنة بهمجية ووحشية أمة الصليب”. هذا التركيز على المنهج هو معيار داعش: تعتقد الجماعة أنها استعادت عافيتها عقب عام 2008 بفضل تمسكها بالطريق القويم أيديولوجيًّا، وليس بفضل أي تكتيكات عسكرية خاصة.
بعد ذلك، يخصص “الخليفة” بضع دقائق لتأبين أفراد التنظيم الذين سقطوا، مشيرًا أيضًا إلى 13 مقاتلًا بالاسم، بما في ذلك بعض المقاتلين الغربيين. ويدّعي البغدادي أن داعش نفّذ “92 عملية في ثمانية دول”؛ انتقامًا لرجال التنظيم الذين قضوا في تلك المعركة، ويهنئ المسلحين الذين شنوا مؤخرًا هجومًا في بلدة الفقهاء الصحراوية في وسط ليبيا. بعد ذلك، يقبل البغدادي البيعةَ من جماعات في بوركينا فاسو ومالي. ويُشجع على شنّ هجمات ضد فرنسا وحلفائها في منطقة الساحل. كما يقبلُ البيعةَ من أعضاء التنظيمات في “خراسان” (أفغانستان-باكستان).
يُشيد البغدادي بمرتكبي التفجيرات الانتحارية التي وقعت في عيد الفصح في سريلانكا، زاعمًا أنها تأتي انتقامًا لفقدان الباغوز، ويقول الشيء ذاته بالنسبة للهجمات التي تم إحباطها في السعودية. من الواضحِ أن مقطعَ الفيديو الذي يستغرق دقيقتين، ويُظهر صورًا من هجمات سريلانكا، ومقطعي الفيديو اللذين يزعم فيهما عناصر داعش مسؤوليتهم عن الهجمات، ليس لها صلة بالمحاضرة التي يلقيها البغدادي، وجهًا لوجه، وربما تكون قد أضيفت لاحقًا.
ولم يُشر البغدادي إلى المذبحة الأخيرة التي راح ضحيتها مسلمون، في كرايست تشيرش في نيوزيلندا، والتي تكهن بعض المسؤولين في سريلانكا بأنها السبب في الهجمات الإرهابية. وقرب نهاية الفيديو، يتم تسليم زعيم داعش بعض التقارير عن مختلف ولايات التنظيم في العالم، بما في ذلك ولاية تركيا الجديدة على ما يبدو. وهناك أيضًا ملف عن “تونس”، لكنه لا يتضمن الإشارة إلى ولاية محددة. ربما الهدف من هذه المشاهد هو إظهار أن مشروع داعش، الذي يتابعه زعيم التنظيم شخصيًا، وبنشاط، ذو طابع عالمي بل يتوسع، رغم الهزيمة العسكرية في سوريا والعراق.
باختصار، من الوهلة الأولى، لا يقدِّم خطابُ البغدادي، فعليًا، أي محتوى جديد. أما إشارته إلى استمرار “حرب الاستنزاف”، رغم الخسائر التي مُنِيَ بها على الأرض، وإلى امتداد النضال لفتره طويلة -“الجهاد مستمر حتى يوم القيامة، والله أمرنا بالجهاد، ليس النصر”- هي رسائل دأبَ داعش على نشرها منذ ثلاث سنوات.
ومع ذلك، وكما ذكرنا من قبل، فينبغي التأكيدُ على أن إشارات البغدادي العديدة لمناطق وقاراتٍ مختلفة، تعني أن زعيم داعش حدد معالم مشروع توسع على نطاق عالمي، يتعدى الهلال الخصيب، ويمتد إلى دولٍ مثل سريلانكا التي لا توجد بها تنظيمات جهادية عميقة الجذور.
من الواضحِ أن ظهور زعيم داعش شخصيًا، بعد خمس سنوات تقريبًا، يهدف إلى رفع معنويات مقاتليه والمتعاطفين معه. فمن ناحيةٍ، يأتي هذا الظهور في وقت تَرِد فيه تقارير حول تصاعد حدة التوترات والنزاعات داخل التنظيم عقب انهيار مشروع الدولة الطموح. بل وردت تقارير عن وقوع انقلاب داخل داعش في يناير 2019 (رغم أن ما حدث بالضبط غير واضح حتى الآن). ومن ناحيةٍ أخرى، لا يشير “الخليفة” المزعوم إلى أي قضايا دينية أو عقائدية، ويعطي البغدادي، حتى الآن، انطباعًا تامًا بقدرته على فرض إرادته على التنظيم.
ورغم أن التنظيمات الإرهابية، مثل تنظيم داعش، تُحيط عملها بسياجٍ من السرية بغيةَ الحفاظ على أمنها، فإنها تضطر في الوقت نفسه للظهور الإعلامي من أجل الحفاظ على علاقاتها مع المحيط الاجتماعي، وتحقيق أهدافها السياسية. في رسائلهم، يتعين على الإرهابيين مخاطبة ثلاثة أنواع رئيسة من الجماهير: الأعداء، والمجتمع الداعم، والأطراف الثالثة. ومن ثم، يضطرون لإدارة توازن معقدٍ ودقيق بين الحاجة إلى الإخفاء والإعلان.
عادةً ما تزدادُ درجةَ السرية من المحيط (الأطراف) إلى مركز التنظيم الإرهابي. وهذه الحقيقة، غالبًا، ما تُجبر قادةَ التنظيم على الاختباء في مكان سري يصعب الوصول إليه، بعيدًا عن البيئة المحيطة. في الوقت نفسه، يمكن للقادة، خاصة إذا كانوا بارعين في مهارات الاتصال، أن يتعهدوا بالترويج المباشر للقضية وتعزيز توافق الآراء في التنظيم. وهكذا، تتجلى الموازنة بين السرية والظهور في أشد صورها في قمة هرم الجماعة السرية.
في مواجهةِ هذه المعضلة، يفضل كثيرٌ من قادة التنظيمات السرية الإقدام على المخاطرة بالظهور، فعلى سبيلِ المثال، كان ياسر عرفات، الرئيس الراحل لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي كان يتمتع بشخصية كاريزمية، لديه “شهية كبيرة للظهور الإعلامي”، واعتاد إجراء مقابلات منتظمة مع وسائل الإعلام الغربية، في الوقت الذي كانت تقوم فيه قواته بأعمال شغب في لبنان، رغم أنه يخاطر بتقديم معلومات قيمة عن شخصه أو المنظمة السرية بأسرها. كذلك وفي الآونة الأخيرة، قرر أسامه بن لادن الظهور في العديد من أشرطه الفيديو والتسجيلات الصوتية، حتى بعد 11 سبتمبر 2001، رغم علمه بأنه سيتم تحليلها بأقصى قدر من الاهتمام، من قبل وكالات مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم، التي تحرص على تعقبه.
وقد اختار البغدادي، الذي يُعتبر شخصًا انطوائيًا لا يتمتعُ بمهارات اتصالٍ متميزة، مسارًا مختلفًا جدًا، مفضلًا السرية والأمن على الشهرة والظهور. وباستثناءاتٍ قليلة، لم يلعب، بصورةٍ شخصية، ومباشرة، دورًا رئيسًا في الحملة الدعائية الواسعةِ النطاق، والمستمرة والمتطورة لداعش. ورغم أن البغدادي قد اكتسب قدرًا من السلطة الكاريزمية، فقد أصبح تنظيمُ داعش -تحت حكمه- منظمةً بيروقراطية ضخمة، لا تحتاج إلى تقديس شخصية القائد للحفاظ على تماسكها.
بالنظر إلى الموازنة بين السرية/ الظهور، يُمثل فيديو “في ضيافة أمير المؤمنين” منعطفًا حاسمًا للتنظيم الجهادي. ذلك أن زعيمَ داعش الذي يُفضل العزلة قد أقدم على مخاطرة نادرة في لحظة غير عادية: خلافًا لما كان عليه في عام 2014، عندما كان داعش يسيطر على أراضٍ شاسعة، ويستطيع أن يتحكم في البيئة المحيطة، إلى حد ما، ففي عام 2019 ضاعت “الخلافة”، وأصبح البغدادي مضطرًا للتنقل، سرًا، في بيئةٍ عدائية تحرسها أقوى قوة عسكرية في العالم. ويبقى أن نرى ما إذا كان تواتر ظهور البغدادي على وسائل الإعلام سيتغير بشكل كبير في المستقبل.
*زميل باحث في برنامج التطرف والإرهاب الدولي في معهد الدراسات السياسية الدولية في ميلان