فؤاد العسيري*
في 6 ديسمبر 1992، تجمَّع أكثر من 150,000 ناشطٍ متطرف وهدموا مسجد بابري في الهند الذي يبلغ عمره 460 عامًا. والتزمتِ الحكومةُ الصمت إزاء عملية الهدم، ما أثار أعمال عنف استمرت شهورًا عدة، وأدَّت إلى مقتل أكثر من 2,000 شخص. هذا الحادث يشكِّل مثالًا لما يمكن أن يحدث إذا اتخذ المتطرفون والقادة الشعبويون قراراتٍ متهورة، دون النظر إلى العواقب بعيدة المدى.
مؤخرًا قرَّرتِ المحكمة العليا التركية تحويل آيا صوفيا -وهي كنيسةٌ تحولت إلى متحف- إلى مسجد مرة أخرى. وفي حين يبدو هذا القرارُ، ظاهريًّا، أقلَّ تطرفًا من هدم المبنى تمامًا، فإنه تداعياته وعواقبه السلبية ستكون طويلة الأجل. واعتُبر هذا التحرك على نطاقٍ واسع خطوة سياسية من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اتخذت دون أي احترام لتراث المبنى وتاريخه.
ينبغي حماية هياكل مواقع التراث العالمي وسلامتها حماية لا لبس فيها. وهذا لا يشمل فقط الحماية الفعلية والمادية لهذه المباني من خلال الحفاظ على الهندسة المعمارية الأصلية، وعدم المساس بالأسلوب التي بنيت به ومواد البناء المستخدمة، ولكن أيضًا الحفاظ على الوظيفة الأصلية للموقع واسمه. ومن ثم، فإن القرار الذي اتخِذ بشأن آيا صوفيا لا يتَّسِق ببساطة مع القيم الحديثة. إن قرار أردوغان قد تجاوز الخط الأحمر، وضرب بعرض الحائط الحكم الإسلامي الذي دام 1,400 سنة، ومنع تحويل المعابد الدينية أو الكنائس إلى مساجد.
تاريخ الإسلام في الحفاظ على مواقع التراث
في الفترةِ ما بين القرنين الثامن والرابع عشر -الذي يسمَّى بالعصر الإسلامي الذهبي- ظلَّت معظم المواقع الدينية، إن لم يكن جميعها، محمية في أماكن؛ مثل فلسطين، ومصر، والعراق، وبلاد فارس، وإيبيريا، إلخ. ومن المؤكد أن القادة والسلاطين الإسلاميين، خلال هذه الحقبة، ارتكبوا جرائم فظيعة وهم يسعون لتوسيع مناطق نفوذهم السياسي، وهم في ذلك لا يختلفون عن قادة الدول والإمبراطوريات الأوروبية. ورغم ذلك، تم الحفاظ على المواقع الدينية والثقافية وحمايتها إلى حدٍّ كبير. ويُعزى الحفاظ على مثل هذه المواقع إلى أسباب عدّة منها تحسين صورة الحاكم الجديد، والاستفادة من مهارات ومعارف السكان المحليين، أو لأسبابٍ أخلاقية.
تبدو كنيسة القيامة، في القدس المحتلة، مثالًا حيًّا على هذا التاريخ من الحفظ. وتُعتبر الكنيسة -حيث يعتقد المسيحيون أن المسيح مدفون- أقدسَ كنيسة في المسيحية. وعلى الرغم من مرور 14 قرنًا من الحكم الإسلامي، ظلَّتِ الكنيسةُ كنيسةً، ولم تُستغل أبدًا لتحقيق مكاسب سياسية أو تعرضت للأذى خلال أي حرب أو صراع.
عصر التدمير الثقافي
غير أن هذه الحماية انتهت في عام 1453، عندما استولتِ الإمبراطورية العثمانية على القسطنطينية، واحتلتها من الإمبراطورية البيزنطية. أمر السلطان محمد الفاتح -المعروف أيضا باسم محمد الثاني- بتحويل آيا صوفيا من كنيسة أرثوذكسية شرقية إلى مسجد، متجاهلًا القواعد الإسلامية المنظمة والسوابق التاريخية.
خلال تحوُّلها، جرَى تدمير العديد من الفسيفساء التي تصور السيد المسيح والملائكة والقديسين المسيحيين أو تغطيتها بأعمالٍ فنية إسلامية جديدة. وفي المقابل، فمن المهم ملاحظة أنه خلال هذه الفترة الزمنية تم أيضًا محو مواقع التراث الإسلامي من قبل المسيحيين. عندما فقد المسلمون السيطرة على إيبيريا في عام 1492، حوَّلتِ الملكة إيزابيلا ملكة قشتالة، والملك فرناندو ملك أراغون، العديد من المساجد إلى كنائس.
وفي بدايةِ القرن العشرين، حدث تحول جماعي في تلك العقلية حيث كان يُنظر إلى تدمير المواقع التراثية إلى حد كبير على أنه جريمة ضد الإنسانية. في عام 1935، أمر مصطفى كمال أتاتورك -مؤسس الدولة التركية الحديثة- بتحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف.
استفزازات أردوغان
في مايو 2014، تجمع عشرات الآلاف من المصلين الأتراك مطالبين الحكومة بإعادة آيا صوفيا إلى مسجد، وذلك قبل أيام من بدء أردوغان حملته الرئاسية. واستجابة لذلك، أوعز إلى المسؤولين بإجراء دراسة لإيجاد استخدام آخر لآيا صوفيا. وقد لاقت هذه الخطوة انتقادات واسعة النطاق. كما شجب العديد من المسؤولين اليونانيين هذه الخطوة باعتبارها تمثل تعديًا على مشاعرهم الدينية والوطنية. ورأى آخرون أن قرار أردوغان هو خطوة سياسية ضد اليونان أو محاولة لتوسيع قاعدته الانتخابية الإسلامية.
في يونيو 2018، فاز أردوغان بفترة رئاسية جديدة مدتها خمس سنوات. ومنحته سلطات رئاسية جديدة كاسحة، فاز بها في استفتاء مثير للجدل في عام 2017، وفي مارس 2019، دعا أردوغان صراحة إلى تحويل آيا صوفيا مرة أخرى إلى مسجد. واستنكر المنتقدون هذه الخطوة، مشيرين إلى أنه لا يوجد نقص في المساجد في اسطنبول. وفي الواقع، يمكن لمسجد السلطان أحمد -الذي يقع في مواجهة آيا صوفيا مباشرة- استيعاب 10,000 مصلٍ، ويمكن لمسجد السليمانية القريب استيعاب عدد ضخم يصل إلى 20,000 مصلٍ ونادراً ما يكون ممتلئاً بالكامل.
وردًّا على إعلان أردوغان هذا، أرسل مجلس القيادة الهيلينية الأمريكية، واللجنة الوطنية الأرمنية في أمريكا، ومنظمة الدفاع عن المسيحيين رسائل إلى اليونسكو، يطالبون فيها المنظمة الأممية بالعمل على حماية آيا صوفيا. وبالإضافة إلى ذلك، أطلقوا حملة على وسائل التواصل الاجتماعي لتسليطِ الضوء على أهمية هذه القضية.
تاريخيًا، كانت المواقع التراثية تتعرض للتدمير بهدف إضعاف المعارضين السياسيين. على سبيل المثال، في عام 1944، قصف الجيش الأمريكي موقعًا تاريخيًّا أسسه بنديكت نورسيا في مونتي كاسينو في عام 529، اعتقادًا منه أن القوات الألمانية قد تستخدمه ضده. ومن الواضح أن أردوغان يفعل الشيء نفسه. وهو يستخدم آيا صوفيا كوسيلة ضغط ضد خصومه السياسيين المحليين والأجانب.
مخاطر النزعة العثمانية الجديدة
في تقرير نشره معهد الشرق الأوسط، يتحدث الباحثان، مروة مزيد وجيك سوترياديس، عن الحركة العثمانية الجديدة في تركيا التي تركز بشكل كبير على القومية والإسلام السياسي اللذين يقومان على إرث الإمبراطورية العثمانية من خلال توسيع السلطة العسكرية والاقتصادية والسياسية. وبالنظر إلى سلوك تركيا في المنطقة اليوم، نجد أنها من الواضح تنفذ هذه الاستراتيجية العثمانية الجديدة في الوقت الذي تتحرك فيه لتوسيعِ نفوذها في دول مثل قطر والصومال وليبيا وسوريا.
اتباع تركيا لهذه الاستراتيجية تسبَّب في إغضاب الولايات المتحدة، وأوروبا، وروسيا، ومصر، ودول مجلس التعاون الخليجي العربي. ومع كل عام يمر، تبتعد تركيا عن الدبلوماسية، وتقترب أكثر نحو استخدام القوة لتحقيق أهدافها. ومن الأمثلة على ذلك “الغزوات” التركية في البحر الأبيض المتوسط. وبدلًا من الدعوة إلى إجراء مفاوضات مع قبرص عند اكتشاف الغاز الطبيعي في مياه البحر الأبيض المتوسط، تُعزِّز بشكل استفزازي وجودها البحري هناك.
الخلاصة
رغم أن أردوغان وجَّه أصابع الاتهام إلى اليونان، قائلًا إنه لا يوجد مسجد واحد قائم في أثينا، فإن هذا ليس عذرًا لتحويل آيا صوفيا إلى مسجد. إنها ببساطة حيلة من أردوغان لتشتيت التدقيق الإعلامي في القضية من خلال مقارنة عدد المساجد في أثينا بعدد الكنائس في اسطنبول. ومن ثم، فإن السماح لأردوغان بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد سيسعد بالتأكيد الجهاديين المتطرفين، ويشجِّعهم على استهداف مواقع التراث غير الإسلامية الأخرى في المنطقة. وإذا ما رأتِ الجماعاتُ المتطرفة أن الحكومة تتجاهل مواقع التراث وتغض الطرف عن تدميرها، فقد يعتبرون ذلك بمثابة ضوء أخضر لاستهداف مواقع تراثية أخرى.
وبالتالي، يقع على عاتق منظمة اليونيسكو مسؤولية مهمة تتمثل في ضمان حماية مواقع التراث العالمي هذه. ولا ينبغي فقط عدم تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، بل هناك حجة مشروعة بأنه تنبغي إعادتها إلى كنيسة ومتحف. ومن شأن القيام بذلك أن يُمكّن تركيا من تصحيح الخطأ التاريخي الذي ارتكبته الإمبراطورية العثمانية ونزع فتيل التوترات الإقليمية المتصاعدة أيضًا.
وفي حين أن تحويل آيا صوفيا قد لا يمنع السيّاح من زيارة الموقع، فإنه مؤشرٌ صارخٌ على ما قد يأتي. والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه الآن هو إلى أي مدى يريد الساسة الإسلامويون أن يذهب أردوغان في تصرفاته للحصول على رضاهم والانسياق وراء رغباتهم. أخشى أن هذا الطريق نحو التشدد لا نهاية له.
- يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
*مستشار التخطيط الحضري