عمار علي حسن
رغم تراجع مؤلفه عن كثير من الأفكار التي وردت فيه فإن كتاب “العمدة في إعداد العدة” لعبد القادر بن عبد العزيز، المعروف بالدكتور فضل، لا يزال من الأدبيات الأساسية التي يعتمد عليها تنظيم “القاعدة” في تبرير مسلكه، وتجنيد أتباعه، حتى اللحظة الراهنة. وقد اعترف كثير من المتطرفين أـن هذا الكتاب كان مرجعا لهم في فترة من الفترات، وبعضهم عاد إليه غير مرة، ليتبين موضعه من الجهاد أو القتال.
ولم تقتصر العودة إلى الكتاب على الأفراد من الجهاديين سواء كانوا يقاتلون عدوا خارجيا أو يقومون بأعمال إرهابية ضد المسلمين، بل إن كثيرا مما ورد فيه تسلل بقوة إلى كتب أخرى قام بتأليفها أولئك الذين قدموا تنظيرات وتبريرات للمسلك الجهادي العنيف، أو من تصدوا للرد على المختلفين معهم ممن يراهم هؤلاء أهل بدع أو مرجئة أو طواغيت أو أنصار طغيان.
فالكتاب، الذي ترجم إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والأسبانية والماليزية والأندونيسية والقارسية والأوردية والكردية، وكان يوزع سرا في بلدان عربية عدة وكذلك أمام المساجد في لندن قبل أحداث 11 سبتمبر 2001، يحوي الكثير من التفاصيل التي تعني بأساليب التجنيد والتدريب، ويضفي على هذا كله مسحة دينية مبررة، تأتي وفق تصور عقائدي لمؤلفه، الذي رأى في الأتباع، حسب ما جاء في الكتاب “الفرقة الناجية” و”الطائفة المنصورة” التي تأخذ على عاتقها فريضة الجهاد في سبيل الله، دون انتظار وجود “إمام” يقود الناهضين إلى القيام بها.
وما يُعطي هذا الكتاب قوة تأثير في نفوس أعضاء التنظيم أن المؤلف جمع بين الخلفية الفقهية، والإلمام بتاريخ المسلمين، والتحرك في الواقع المعيش، إذ إنه من مؤسسي تنظيم “الجهاد” المصري، وصديق زعيمه، فيما بعد، أيمن الظواهري، الذي آلت زعامة “القاعدة” أيضا بعد اغتيال مؤسسها أسامة بن لادن. وقد لحق الظواهري به، بعد قتله في غارة أمريكية على مكان إقامته في أفغانستان يوم 2 أغسطس عام 2022.
وقد خرج عبد القادر من مصر في عام 1981، ونظرا لأنه طبيب فقد عمل في مستشفى الهلال الأحمر الكويتي في بيشاور، ثم انتقل إلى اليمن بعد نشوب الحرب الأهلية بين فرق الجهاد الأفغاني، ثم السودان، وعاد إلى اليمن، ليتم اعتقاله هناك في 11 أكتوبر 2001 ، ويودع السجن في صنعاء، ثم تم تسليمه إلى السلطات المصرية عام 2004 ، لتنفيذ حكم غيابي بالسجن المؤبد في قضية “العائدون من ألبانيا” أصدرته محكمة مصرية عام 1999، بعدها أودع سجن العقرب، وبه أجرى مراجعات خرجت إلى النور بعد ثورة يناير 2011.
وينظر كثير من أتباع التنظيمات “الجهادية” العنيفة إلى “العمدة في إعداد العدة”، الذي كتبه مؤلفه في مدينة بيشاور أثناء اشتراكه في الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفيتي المنهار، باعتباره “مانيفستو” لهم، بدعوى أنه يمثل المدخل الشرعي لكل من يرغب في حمل السلاح باسم الإسلام في أي مكان، بل هو المدخل الحركي له، من منطلق تناوله للكثير من الأساليب التي يتبعها المجاهد خلال وجوده في المعسكر، وأثناء القتال، وإجابته على أسئلة جوهرية حول العمل الجهادي الجماعي، بما حدا بالبعض أن يصفوا الكتاب بأنه “زاد المجاهد”.
ينقسم الكتاب إلى خمسة أبواب، أولها بعنوان “تذكرة في الإخلاص والاحتساب”، وثانيها “حكم التدريب العسكري للمسلمين” والثالث عن “الإمارة” وشروطها، ليلحق به الرابع عن “واجبات الأمير”، ثم الخامس بعنوان “واجبات الأعضاء”. وتناولت هذه الأبواب وجوب الجهاد حتى في ظل غياب إمام أو خليفة للمسلمين، وحكم الاستعانة بالمشركين في القتال، وتبرير الكذب على الأعداء، وصفات أو سمات الطائفة التي كتب لها النصر، والنجاة من النار، وموقف الإسلام من تعدد الجماعات التي تحمل اسمه، أو تعمل له.
وتطرق الكتاب إلى قضية الشورى التي ينهض بها مجلس يختاره الأمير، الذي يكتسب شرعيته بإمارة المعسكر، والمسؤولية عن الذين يقعون في دائرة نفوذ جماعته. ثم تناول موضوع البيعة وفوائدها، والفرق بينها وبين العهد والميثاق واليمين، وكلها أشكال من الولاء بين الأمير والأعضاء، بهدف “الطاعة وحفظ الأسرار وأداء الأمانات والنصح للمسلمين”، إلى جانب أمور أخرى مثل إلزام العضو بعمل معين، وبقائه في المعسكر لا يغادره إلا لمدة معلومة. كما فرق الكتاب تفصيلا بين العدو القريب والعدو البعيد، ليجعل الأول هو الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية، والثانية هو تحديدا الغرب وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، التي رأى أنها تحارب الإسلام.
وقد انحاز الكتاب إلى مقاتلة “العدو القريب” وعدم تجاوز هذا إلى نزال “العدو البعيد”، وظل صاحبه مصرا على هذا الترتيب، ومن ثم اختلف مع “القاعدة” التي قامت بعولمة الجهاد، وطال آذاها القوى الغربية الكبرى. وقد عاد عبد القادر إلى تأكيد موقفه هذا في مراجعته التي أسماها: “وثيقة ترشيد العمل الجهادي”، والتي تلقاها تنظيم القاعدة برفض وحنق، دعا الظواهري إلى تأليف كتاب للرد عليها بعنوان “التبرئة”، فرد عليه عبد القادر بكتاب جديد أسماه “التعرية”
ولم يقصر عبد القادر في كتابه “العمدة في إعداد العدة” الجهاد على فئة خاصة تقوم به، بل جعله معلقا في رقبة كل المسلمين، حتى بمن فيهم الفاسق والعاصي ومن لم يتلق علما شرعيا مؤهلا، أو لم يتحصل على العلم اللازم للفئة المجاهدة.
وهذا الشموال في تناول قضية حمل السلاح باسم الإسلام، جعل من هذا الكتاب ليس زادا معرفيا للمسلحين فحسب، بل يمثل دستورا أو إطارا مرجعيا أساسيا لتصوراتهم وتصرفاتهم، فصاحبه كثيرا ما يحيل إلى ما يعتبرها قواعد شرعية، ويضرب أمثلة من تاريخ المسلمين الأوائل، وبذا غلف أراءه المتشددة بغلاف يظنه المتعجل والمغرض مسنودا إلى “صحيح الإسلام”، بينما هو في حقيقة الأمر ليس سوى اقتطاع واقتطاف من الفقه والتاريخ يخدم فكرة القتال، ويغض الطرف، أو يهمل، المسارات الأخرى من الحوار والتفاهم والتسامح والتعارف والتعاون، وهي قيم أصيلة يدعو لها النص القرآني نفسه.
وفيما انتقد البعض هذا الكتاب، واصفا إياه بأنه لا يلتزم بآداب العلم وأخلاقه، وأنه انزلق إلى التكفير، وأن مؤلفه مغرض ومتعالم وحاقد، يعاني من سوء النية و خبث الطوية، نجد هناك من لا يزال يدافع عن الكتاب بقوة، ويراه عملا تأسيسا استندت أراؤه على ما ورد في كتب التراث، وأن السياق الذي ولد فيه الكتاب يجعله عملا مبررا، تتجدد الحاجة له، والعودة إليه، كلما تجددت الظروف أو الأحوال التي تدعو إلى حمل السلاح، والانخراط في “الحهاد”.
مع هذا لم يخل موقف المستملحين للكتاب، الموافقين على ما فيه، من نقد لمراجعات صاحبه، وفقدانه الكثير من بريقه بابتعاده عن التنظيم، وانقلابه على أفكاره الأولى، في مراجعته التي أعقبت خروجه من السجن بعد ثورة يناير 2011، بل قوله بأنه لم ينضم إلى التنظيم إنما كان يقوم بدور “الاستشاري الشرعي” في أغلب الأحيان، وأنه فعل ذلك بسبب صداقته لبعض قادة “القاعدة”.
في العموم فإن قراءة هذا الكتاب لا يجب أن تهمل السياق الذي تم تأليفه فيه، فصاحبه كان يكتبه من مخيمات وكهوف أفغانستان، وقت الجهاد ضد الاحتلال السوفيتي، وبذا فإن تطبيق أفكاره خارج هذا النطاق لا يجوز شرعا، إنما هو نوع من التزيد على الواقع، والافتئات على الشريعة. فلا يوجد ما يبرر الاعتداء على آخرين لم يهاجموا ديار الإسلام باسم جهاد الطلب، ولا يصح، في رأي كثيرين من علماء الدين، أن ينظر إلى الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية على أنها عدو تجب مجاهدته.
وللمؤلف كتاب آخر هو “الجامع في طلب العلم الشريف” يكمل رؤيته حول ما يعتقد أنها أسس الجهاد، وفيه توسع في تكفير عوام المسلمين وأئمتهم، وبالطبع من على غير ملتهم، حاكما كان أو محكوما. وينقسم الكتاب إلى سبعة أبواب أهمها جاء حول فضل العلم، وسبل طلبه، وآداب العالم والمتعلم، والكتب الشرعية الواجب دراستها.
وانطوى الباب السادس تحديدا على أفكار غاية في التشدد، إذ يرى أن الجهل بأمور الشرع إن كان مانعا من عقوبة الكافر الأصلي، لكنه ليس مانعا من إطلاق حكم بكفر الجاهل، حتى تقام عليه الحجة بأنه قد سعى إلى طلب العلم. ونظرا لشيوع العلم الشرعي في ديار المسلمين فلا عذر فيها بجهل، لاسيما للمعلوم من الدين بالضرورة. وقد كفر عبد القادر تارك الصلاة، ولو صلاة واحدة، ومانعي الزكاة. كما اعتبر المؤلف أن الديمقراطية وثنية معاصرة، لأنها تقوم على “حاكمية الجماهير” وتجعل السلطة بيد الإنسان، وطالب بمواجهة الحكام على أساس أنهم “مبدلون للشريعة”.
ويعتبر ما أورده عبد القادر في وثيقة “ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم”، التي تقع في مائة وعشر صفحات من القطع الصغير، هو أبلغ رد على كتابيه “العمدة في إعداد العدة” و”الجامع في طلب العلم الشريف”. ففي مراجعاته رأى أن صدام أنصار التنظيمات الجهادية، وفي مقدمتها القاعدة، مع الحكومات الإسلامية والدول الكبرى، استند إلى كثير من المغالطات والمخالفات الشرعية، مثل القتل على الهوية من دين أو عرق أو لون، والتذرع بالتترس، الذي يعني تبرير قتل الأبرياء إن كان الهدف قتل من يقصدهم الإرهابيون. ورفض عبد القادر استحلال أموال الناس أو إتلافها، وتدمير الممتلكات، قائلا: “لا شيء يجلب سخط الرب ونقمته كسفك الدماء، وإتلاف الأموال بغير حق”.
ورفض عبد القادر أيضا مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” الذي تتبعه التنظيمات المتطرفة والإرهابية، حتى لو لم تعلن هذا صراحة، حيث قال: “أما أن يضع المسلم لنفسه هدفا وإن كان في أصله مشروعا ولكن فوق طاقته ولا يناسب حاله ثم يسلك أي وسيلة لتحقيق هدفه غير متقيد بضوابط الشريعة فهذا قد قدم مراد نفسه على مراد ربه”، ثم أعلن براءته من كل الذين يستخدمون كتبه السابقة لتبرير أو تدبير وتنفيذ أي أعمال قتالية داخل بلاد المسلمين، سواء كان اغتيال شخصيات حكومية أو شرطية أو حتى قتل سياح قادمون إليها، حتى لو كانت بلادهم في حالة حرب مع المسلمين، أو خالفوا هم أثناء وجودهم في ديار المسلمين بعض تعاليم الإسلام.
وينطوي الكتاب أو المراجعة على تبيان كيفية تعامل المسلمين مع معتنقي الديانات السماوية الأخرى في بلاد المسلمين، وفق معيار “المواطنة” الذي صار ينظم العلاقة بين مكونات أي مجتمع، ويرى أن حسن معاملتهم هي أحد شروط الإيمان بالإسلام نفسه، أما الاعتداء عليهم فهو من الكبائر. وفي الوقت نفسه يرى أن قيام أي من المسلمين المقيمين بدول أجنبية باعتداء على الناس أو الممتلكات فيها هو من قبيل الغدر والخسة والخيانة.
وعلى النقيض مما جاء في كتاب “العمدة” حول الرافضة والمبتدعة، يقول عبد القادر في مراجعته: “لا يجوز التعرض للمنتسبين للإسلام بسبب اختلاف المذهب”، بل إنه يرى أن استحلال دماء الشيعة هو الذي من البدع، التي لا يقرها الشرع الحنيف.
لكن مراجعة عبد القادر نفسه، وتراجعه عن أفكاره التي تضمنها كتابيه “العمدة” و”الجامع” لم يلتزم به كثير من “الجهاديين”، الذي سرعان ما قدحوا في المراجعة، وهاجموا صاحبها، وقالوا إنها لم تكن عن اقتناع، رغم أن المتراجع لم يتخل عن الاستناد إلى الشريعة في مراجعته، ومن ثم واصلوا العودة إلى “العمدة” وقت أن يكونوا في موقف إعداد لقتال أو القيام بعملية إرهابية، وإلى “الجامع” حين يرون أن بعضهم يجب أن يتفرغ لطلب العلم الشرعي، لتعليم غيره، أو يكون جاهزا للاستشارة في أي وقت.